الأحد، 29 ديسمبر 2013

مـقـاصــد الـعــقـائــد


أ. رياض أدهمي

العقائد هي مجموعة الحقائق الكونية التي تشتد الحاجة إلى الإيمان بها و تصديقها لتكون المرجع و التصورالذي  يمكّـن الإنسان من التعامل مع الوجود و معرفة مكانته و دوره  فيه ، و تشكل العقائد بهذا معيار الإنتماء  إلى جماعة دينية أو منظومة فكرية . 
و الحقائق الكونية في مبدئها و منتهاها لا تنحصر ، وعلم هذه الحقائق الكونية واسع لا يحيط بسعته و شموله أحد من الخلق ، ذلك العلم الذي وصف القرآن الكريم سعته و امتداده بقوله :
﴿و لو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام و البحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله﴾.  و قد اختار الله سبحانه و تعالى أن يُطلع عباده على طرف من علمه في مجال الغيب المكنون ،  في أمور تتعلق بذاته عزّ و جـلّ و صفاته ، أو  بالخلق و التكوين أو الأمر و النهي أو  المآل و النهاية التي تنتظر الكون و ما فيه ،  أو غير ذلك من الحقائق الكونية ، و ذلك ضمن آيات معـدودة  من آيات القرآن الكريم
 و قد اختارالله سبحانه و تعالى لخطاب عباده بما يجب عليهم الإيمان به و تصديقه اسلوب بيان الحكمة و الغاية و المقصد و بيان أثر الإيمان بآحاد قضايا الإعتقاد و جملتها على سلوك الإنسان و مزاجه و استقرار قلبه و اتزان عقله و انضباط مشاعره . إن البيان القرآني طافح باستعمال اسلوب التعليل و بيان الغاية و المقصد في سياق آيات العقائد و قضايا الإيمان تماماً كعادته في سياق آيات الأحكام العملية .
 وهنا نتساءل عن السبب الذي صرف  العلماء عن التوسع في شرح امتداد النمط القرآني في التعليل إلى آيات العقائد و الإيمان و أخبار الغيب . و ندرك أن خطاب القرآن الكريم و أسلوبه  في عرض قضايا الإيمان بحاجة إلى من يرتاده و يدرسه و  يتأمل في آفاقه و خصائصه و مقتضياته ، و هو ما اخترنا أن نطلق عليه اصطلاحاً  "مقاصد العقائد".
 بحث علماء الشريعة عن المعاني و الحِكَم و الغايات و المقاصد المبثوثة في النصوص و ذلك  في سياق بحثهم عن علل الأحكام العملية التفصيلية، و استخدموا مبدأ القياس ووضعوا شروطاً للعلل التي تصلح أن تكون سبباً في تعدية الأحكام الشرعية  تطبيقاً للأمر:  ﴿فاعتبروا يا أولي الأبصار﴾.
فأهل البصر و البصائر يبحثون عن المعاني التي تجتمع في الأمور و الأوضاع ليحكم العقل بأن مآل هذه الأمور و الأوضاع في النظر الشرعي يجب أن يكون واحداً.
و قد استعمل العلماء آلية القياس للنظر في الأمور الجديدة التي لم تستوعبها النصوص و أسعفهم في ذلك منطق التعليل الذي شكل لحمة البيان القرآني و سداه.
و قد ملأ الحديث عن العلة و التعليل و مسالك العلّة و ضبطها كتب أصول الفقه ، و طال الجدال عن الترجيح بين الآثار و القياس ، و توسع النظر من  القياس الجزئي إلى القياس الكلي و ما يؤول إليه من اعتبار المقاصد ، و لكن الملاحَظ أن كل هذا الحديث كان يدور حول الأحكام العملية من تصرفات و معاملات و عقود و مبادلات . أما الشعائر و العبادات فقد دار الحديث عن أحكامها بمعزل عن التوسع في استعمال آلية القياس ، فالعبادات لا ينظر فيها إلا إلى معنى الخضوع و الإمتثال ، و أحكامها " توقيفية " بمعنى الوقوف في شأنها عند ما حد الشارع بدون زيادة و لا نقصان . و شاع استعمال وصف التعبدي في أحكام الشعائر في مقابل الأمور معقولة المعنى التي تشمل أحكام المعاملات و التصرفات.
و قد تطرق كثير من العلماء إلى الحديث عن أسرار العبادات و معانيها و ما يجب على العبد أن يستحضره عند الدخول فيها ، و شاع ذلك في كتب التربية و الزهد و الرقائق حيث يمثل كتاب "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالي نموذجاً واضحاً للتوجه الذي يبحث في معاني العبادات للنظر فيما يجعلها حية مؤثرة تحقق معنى التزكية ، و ليس من قبيل النظر في المعاني لاكتشاف العلل و تعدية الأحكام و توسيعها بالقياس.
و عند العودة إلى القرآن الكريم و البحث عن منهجه في الخطاب لتأسيس قضايا الإيمان و بيان الأسباب و الحِكَم و المعاني و موجبات الإعتقاد ، نجد أن خطاب القرآن يتعامل مع العقل الإنساني بثقة و اعتراف و احترام. فمن المؤكد أن الله سبحانه و تعالى يكفي في خطابه لعباده أن يُـخبِـر حتى يكون الخبر لازماً للتصديق ، أو  يأمر و ينهى ليكون الأمر لازماً في أعناق العباد دون حاجة إلى تعليل وشرح و بيان لموجبات الإخبار أو الأمر و النهي . و لكن بيان القرآن الكريم كان في كل إخبار عن الغيب أو كلّ  أمر و نهي يخاطب الإنسان و يترفق به  و يستميله للتصديق والطاعة و الإستجابة ببيان أسباب الأمر و علل النهي و موجبات التشريع و عاقبة الإمتثال في الدنيا و الآخرة و عقابيل الإعراض و عقوباته في الدنيا قبل الآخرة ، حتى وصل العلماء من استقراء هذا النمط في القرآن الكريم إلى القول بأن تكليف ما لا يُعقل هو من تكليف ما لا يُطاق و الذي تنـزّهت عنه شريعة الرحمة .
و عند الوصول إلى هذه النقطة و استقرار قاعدة التكليف وتأسيسها على العقل و الفهم و الإدراك  ، فإن  ما يلفت النظر في الخطاب القرآني في أمور الغيبيات و الإيمانيات هو خطابه العقلي و نمطه التعليلي، فالقرآن يخاطب و يتحدى و يستثير عقلاً ناقداً بصيراً إلى درجة أن القرآن يصم الذين لا يؤمنون بفقد القدرة على استعمال عقلهم أو الإنتفاع بمصادر العلم و المعرفة عندهم. فالإيمان في القرآن هو صنو العقل و الفطرة ، و ليس في قضايا الإيمان ما يتعارض مع المعاني الضرورية و البدهيات المركوزة في العقل الإنساني ، و كل ما أحيل فيه العقل إلى التسليم و القبول هو من قبيل الكيفيات التي يطمح الإنسان إلى معرفتها و لكنه لم يؤهل لفهمها لأنها تنتسب إلى إطار آخر خارج حدود الزمان و المكان التي تشكل إطاراً لعمل العقل الإنساني و مجال إبداعه و تفاعله.
فليس في قضايا الإيمان ما يتعارض أو يتناقض مع العقل أو يوقعه في الحرج ، و لكن فيها ما يذكر الإنسان بقصوره و ضعفه و ما يمنعه من التنطع في البحث عن كيفيات ليس عنده مصادر معرفتها أو وسائل اختبار ظنونه بشأنها .  
و أول ما نلاحظه في الخطاب القرآني في أمور الإيمانيات و الغيبيات هو توجهه العملي ، فما اختار الله سبحانه أن يُخبر عباده بشيء من الغيب إلا لوجود أثرٍ للعلم بذلك الغيب على  سلوك المؤمن و مزاجه و طريقة تناوله و معالجته للأمور . وملاحظة هذا الأفق العملي في بيان آثار قضايا و مفردات الإيمان على السلوك و المشاعر و المزاج يوجه المؤمن عند دراسة الإيمانيات  بعيداً عن التجريد و التعقيد الذي صبغ علم الكلام و صياغات كتب العقيدة .
 فإذا درسنا الخطاب القرآني في عرضه لمفردات قضايا الإيمان بهذه الطريقة نكون بذلك قد حققنا هدف القرآن في ربط الإيمان بالعمل و ربط قضايا الإيمان بالتوجهات العملية للمؤمنين و  ما يجب أن تكون عليه ثقافتهم و نمط حياتهم و علاقاتهم بما يفتح باباً من الفهم في معرفة مقتضيات و متعلقات  قضايا الإيمان .
و مما يتعلق بهذه النقطة دراسة الأحوال العملية و السلوكية للأفراد و الجماعات التي لم تعرف في ثقافتها طرفاً من الإيمانيات و قضايا الإعتقاد ، و متابعة نمط حياتهم و الصعوبات التي طبعت مجتمعاتهم و ما كانوا فيه من عنت و مشقة ترتبط بمقتضيات ما أنكروه من قضايا الإيمان أو ما تورطوا فيه من تصورات بشرية وثنية قاصرة .
و في هذه العجالة سنحاول استعراض طرف من النمط القرآني في عرض قضايا الإيمان بما يوضح آثارها و ما يريده القرآن من عرضها ، و ذلك لتأسيس طريقة لفهم الخطاب القرآني و ربط العقل و القلب بحقائق الوجود بشكل تظهر فيه إمكانيات التزكية و التطهير لعلاقة القلب بالحق و تنـهه عن الخرافة و الأباطيل . 
لقد أخبر الله سبحانه عباده بمواطن ضعفهم و قصورهم ، فهو الذي خلقهم و هو أعلم بهم . فالإنسان كما وصفه ربه فيه هشاشة و رعونات :
·        ﴿إن الإنسان خلق هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، و إذا مسه الخير منوعا﴾
·        ﴿و كان الإنسان قتوراً﴾
·        ﴿و كان الإنسان ضعيفاً﴾
·        ﴿و كان الإنسان أكثر شيء جدلاً﴾
·        ﴿و كان الإنسان كفوراً﴾
·        ﴿إن الإنسان لظلوم كفّار﴾
·        ﴿إن الإنسان لربه لكنود﴾
·        ﴿زين للناس حب الشهوات﴾

و قد أخبر الله سبحانه أن علاج هذه الرعونات و مواطن الضعف الإنساني لا يكون إلا بالإيمان بالله و الإلتجاء إلى حماه . فالإيمان بالله و ذكره و التعلق به و التوكل عليه هو الركن الشديد الذي  تزكو به النفس و تسمو و تعيش الأمن و العدل و السعة :
·        ﴿ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾
·        ﴿الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون﴾
فالإيمان بالله عزّ و جـلّ يمثل الحقيقة الكونية الكبرى ، و القرآن الكريم يضع هذه الحقيقة و يطالب بالخضوع لها في إطار دورها في التزكية للنفس و التحدي للرعونات والتماسك عند الضعف ، و ليس في إطار الإلزام العقلي البارد الباهت الذي لا يزكـّي و لا يغري بفضيلة أو خير.
*        *        *
و من أوضح الآيات الدالة على نمط التعليل في عرض معاني و مقتضيات الإيمان قوله تعالى: ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير . لكي لا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم﴾.
فالآية الكريمة تقرر حقيقة علم الله المطلق الشامل و تقرر في الوقت نفسه حقيقة أثر الإيمان بعلم الله على النفس المؤمنة عصمةً من التحسر و الحزن المضيع للوقت و الطاقة في حال الفشل و فوات الأمنيات ، و عصمة من الكبر و البطر و التبجح في حال النجاح و اتصال العطاء . و من الواضح أن اسلوب التعليل في قوله تعالى ( لكي ) يشكّل في سياق الآية الرابط العملي بين قضية الإيمان بشمول علم الله و بين السلوك الإيماني المتماسك في مواجهة فتن الخير و الشر.
*        *        *
و يعرض القرآن الكريم قضية غاية الخلق و يقرر حقيقة المسؤولية الفردية في أمثال هذه الآيات:
·        ﴿أيحسب الإنسان أن يترك سدى﴾
·        ﴿أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً﴾
·        الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً
فالتعليل لبيان غاية الخلق يشكل إطار الفهم لـلغز الحياة ، فيصرف المؤمن جهده و طاقته لإحسان العمل و تعميم النفع و الإستعداد للمحاسبة ، و لا يضيع عمره في محاولة فهم ما لا ينبني عليه عمل من أمور الغيب.
*        *        *
و يعرض القرآن الكريم قضية الإيمان بالرسل و تصديقهم واتباعهم في إطار بيان الأثر العملي الذي تتركه تعاليم الأنبياء على تزكية الحياة البشرية و حياة الأمم و الشعوب:
·        ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات و أنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط﴾
·        ﴿و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم﴾
·        ﴿و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾
فالآيات تطالب الإنسان بالإيمان بالرسل ليستقيم معيار القسط و يتم البيان بما تقوم به الحجة و لتتجلى الرحمة باستقرار العمران برفع موارد الظلم و الطغيان . و التعليل في هذا الخطاب واضح جلي يحرض العقل على التفكير و التأمل في علاقة البشر بالهداة من الرسل و تعاليمهم وما تؤصله في حياة البشر من معيار للحق و العدل و ما تصيغ به القلب من محبة للأسوة و القدوة. و لعل من المفيد أن نتأمل التعقيبات و التعليقات التي وردت في القرآن الكريم عند سرد قصص الأنبياء و الرسل ، و هي ما عبر القرآن عنها بأنها من أخبار الغيب ، فمن الواضح أن السياق القرآني يضع أخبار الرسل في إطار البيان لعبر التاريخ و عاقبة الصبر و الثبات و مآل التكذيب و الجحود و ضرورة التربية و الإستعداد و التنبيه إلى سنن التدافع و التعارف و التداول ، ليرتقي المؤمن بعد الفهم لأغراض قصص الأنبياء  إلى الفهم الكلي لحركة التاريخ و دور الإيمان في سعي الإنسان .
*        *        *
ويعرض القرآن الكريم قضية الكفر و الجحود و الشرك و ينفر من التورط فيها و ذلك من مدخل عملي يبين أثر الشرك على النفس الإنسانية و ما يكشفه من عيوبها و هشاشتها و رعوناتها :
·        ﴿و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً﴾
·        ﴿كلا إنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى﴾
·        ﴿و من يشرك بالله فكأنما يصّـعّـد في السماء أو تهوي به الريح في مكان سحيق﴾
·        ﴿و من يشرك بالله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصّـعّـد في السماء﴾
·        ﴿والذين كفروا مثلهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً و نداءً صمٌّ بكمٌّ عميٌ فهم لا يعقلون﴾
فالإنسان عندما يتنكر لفطرته و يجحد خالقه أو يظن إمكانية الإستغناء عن هداه ، يتبدى خواؤه و يقف وحيداً في مواجهة لغز الحياة ، فيشعر بالعدمية و الفراغ و العبثية و التمزق . و يفقد في خضم الانسياق مع الأوهام قدرتَه على الإنتفاع من مصادر العلم و المعرفة. 
و مما يتعلق بما نحاوله من سبر مقاصد العقائد في القرآن و بيان المتعلقات العملية للإيمان، دراسة الآثار السلوكية و مقتضيات العلم و الإيمان بأسماء الله الحسنى . و هذا منهج تربوي عملي يجعـل حياة المؤمن في كل لحظة من حياته محاولة للإستجابة المناسبة لما يطلع عليه و يلاحظه أو يعيشه من تجليات الله سبحانه باسم من أسمائه في الكون أو حالات القلب أو خواطر التفكير . و هذا الأفق من النظر في مقاصد العقائد يجعل التوحيد لله عز و جل هو محور الفهم و التفسير و مجال التفكير و التدبر و الإتعاظ . و هذا الأفق من الفهم أيضاً يحاول عقد الصلة بين ما يذكره الله سبحانه من أسمائه و صفاته في نهاية الآيات من القرآن الكريم و بين موضوع الآيات و مضمون الخطاب من أمر أو نهي بحيث يكون الفهم لمعاني الأسماء و الإنضباط بآدابها معيناً على الإلتزام بالأمر و تحقيق مقاصده في تزكية النفس و عمارة الكون .
فالصلة بأسماء الله تعالى و صفاته تعود إلى وضعها الصحيح عندما تكون دليلاً في ساحة العمل و الإبتلاء ، فقد جاءت هذه الأسماء شاملة و مقابلة لحركة الإنسان ليتعلق بها في جميع حالاته التي تعرض له في واقعه و دنياه . و لعل هذا المعنى هو الذي أشار إليه الإمام البيهقي في شرحه لحديث الأسماء الحسنى الذي رواه البخاري ومسلم " إنّ لله تسعةً و تسعين اسماً ، مائةً غير واحد ، من حفظها دخل الجنة" . قال الإمام البيهقي في معنى – من حفظها – أي من أطاقها بحسن المراعاة لها و المحافظة على حدودها في معاملة الرب بها .
و إذا حاولنا استعارة المنطق التعليلي الذي استعمله العلماء و الفقهاء لإثبات المقاصد و المصالح في الأحكام الشرعية ، و الذي توصلوا من خلاله إلى القول بأن نفي العبث عن الله سبحانه و تعالى أفعاله و أحكامه يؤدي إلى إثبات المعاني و المصالح في الأحكام ، هذه المعاني و الأحكام التي لا بد أنها تعود إلى ما يتعلق بسعادة الإنسان و طيب عيشه في الدنيا و ليس إلى ما يتعلق بالله سبحانه فهو الغني عن العالمين لا تنفعه طاعة الطائعين و لا مخالفة العاصين .
 إذا استعرنا هذا المنطق فإننا نتوصل إلى القول بأن ما اختارالله سبحانه أن يعلمنا به  في القرآن الكريم أو على لسان نبيه من أخبار الغيب من أوصافه و أسمائه – سبحانه -  أو أسرار خلقه و عجائب صنعه، لا بد و أن يكون له سبب و معنى يليق بكمال الله و بعده عن العفوية و العبث .
فما ذكره الله سبحانه من أسمائه و صفاته هو طرف و جزء من الأسماء التي استأثر الله سبحانه بعلم الكثير غيرها مما لم يذكره في كتابه أو علّـمه أحداً من خلقه . و ليس هناك من سبب لذكر ما ذكره الله من الأسماء إلا لأثرها البيّن الواضح على نفس الإنسان و أخلاقه و تصوراته و سلوكه.
و من خلال هذه اللفتات نأمل أن نكون قد فتحنا باباً و أصـّلنا توجهاً في في فهم آيات العقائد و أخبار الغيب . فليس الإمتاع و الإغراب و التشويق – أو غير ذلك من الأغراض الفنية الأدبية  -  هي من مقاصد آيات و أخبار القرآن ، بل التزكية و الآثار العملية السلوكية و الإستجابة لكل نوازع النفس البشرية و ضعفها أو مكامن ترقيها و سموها في العالمين .
و بهذا التوجه العملي نرجو أن يحل الكلام عن مقاصد العقائد محل الجدل العقيم و السفسطة الفارغة... لتتأكد صلة الإيمان بالعمل و صلة العقائد بتزكية القلب و توجيهه إلى الخير.

الاثنين، 16 ديسمبر 2013

حوار في المقاصد

رياض أدهمي

من أين تنبثق ضرورة الدعوة إلى فقه جديد معاصر ؟ ولماذا الإلحاح في كثير من المواقع على مصطلحات الاجتهاد والتجديد ؟ هذه أسئلة حساسة لا يمكن الإجابة عليها دون معرفة عميقة بأبعاد التحدي الذي تفرضه طبيعة الإسلام (وهو الرسالة العالمية الخاتمة) ، من حيث تأكيد صلاحيته وخلوده وقدرته على توليد إجابات أصيلة لأسئلة العصر وحوادثه وأقضيته المتجددة . وتأتي إشكالية القصور والاختزال الذي تؤول إليه المحاولات التقليدية المتكررة لشد ومد التراث الفقهي والفكري لعلمائنا الأعلام ، في محاولة لسحبه على واقع أمتنا والواقع العالمي المعاصر بحيث يجيب على جميع أسئلته ويعالج جميع مستجداته ، تأتي تلك الإشكالية لتكون سببا إضافيا في تلك الدعوات إلى فقه معاصر ، وإلى ضرورة التجديد والاجتهاد ، وذلك من منطلق خصوصية السياق التاريخي والاجتماعي والاقتصادي لعطاء أولئك الأئمة الأعلام السابقين ، وذهول أصحاب محاولات الشد والمد أو غفلتهم عن تلك الخصوصية ، وعن ضرورة استصحاب خصوصية هذا الزمان وسياقه - بالمقابل - في الأحكام والفتاوى المتعلقة بأقضيته وحوادثه .

إن من الممكن عند متابعة واستقراء تلك الدعوات التي تصدر عن مواقع متعددة في الأمة إلى ضرورة الاجتهاد والتجديد ، رؤية خط ناظم يجمع بين مختلف وجهات النظر يتمثل في الاهتمام بمقاصد الشريعة ، وبالدراسات والمصنفات التي تهتم بتنزيل فقه الأحكام ، واعتبار الواقع والعرف ومآل التصرفات . فلا تكاد تجد بحثا فكرياً أو محاولة فقهية إلا ويتضمن الاستفادة أو الإشارة أو الإحالة إلى ماكتبه الشاطبي في الموافقات ، مؤصلا فيه هذا العلم ، أو إلى ماكتبه ابن القيم في "إعلام الموقعين" ، أو إلى مفاهيم المصلحة والمنفعة والاستصلاح والتعليل بشكل عام .

ولا أدل على هذا الاهتمام من أن المعهد العالمي للفكر الإسلامي أصدر ثلاثة دراسات رائدة في موضوع المقاصد ، إضافة إلى دراسات رائدة أخرى نخص بالذكر منها على سبيل المثال دراسة نشأة علم المقاصد للأستاذ عبد المجيد الصغير . وإذا كانت هذه الدراسات الرائدة لموضوع المقاصد قد فتحت هذا الملف الخطير ، وكانت مؤشرا على أن الاهتمام بقضية الاجتهاد والتجديد في الأمة انتقل من مرحلة طرح الفكرة والدعوة إليها ، إلى ممارسة البحث فيها ، فإن من المناسب في هذه الفترة الانتقالية توسيع دائرة الحوار والبحث لكي يشمل تحرير المقاصد نفسها ، أو على وجه أدق ، تحرير آفاق المقاصد.

إن من الملفت للنظر في جميع الدراسات المقاصدية المعاصرة ، اقتصار النظر والبحث على أهمية المقاصد وتاريخ النظر إلى هذه القضية . ولكن المطلوب بإلحاح في هذه المرحلة إنما يتمثل في تحديد حقيقة معنى المقاصد الشرعية من حيث تعريفها وآفاقها ، بما يساعد الدارس على رسم إطار إسلامي للقضايا والمشكلات المعاصرة التي يعالجها . وهو مايكاد يكون هامشيا أو في المساحة الظليلية من تلك الأبحاث .

وحتى يتضح مرادنا من الكلام ، فإن المقاصد الشرعية بتقسيمها الخماسي ، والمتمثلة في حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال ، وإن مراتب المقاصد الشرعية بتقسيمها الثلاثي المتمثل بالضروريات والحاجيات والتحسينيات ، استمرت على ماهي عليه كما وضعها رائد علم المقاصد الإمام الجويني ، وتابعه عليها الإمام الغزالي ، وأخيرا كما أصَّلها وصاغها شيخ المقاصد الإمام الشاطبي . بينما كان إسهام الدراسات المقاصدية المعاصرة في تقديم إضافاتٍ نوعية قليلاً نسبياً في هذا المجال ، من مثل انتاج الإمام ابن عاشور الذي بدأ بما يمكن أن نسميه (توسيع آفاق المقاصد) عند مناقشته لقضية الحرية ومفهوم الفطرة ، أو ماطرحه الدكتور حامد العالم من كون التعلم مثالا على حفظ العقل ..

ولابد من التأكيد - رغم ذلك - إلى أننا لانقصد بهذا الكلام نفي وجود كثيرٍ من الإشارات والأفكار المضيئة ، والمنبثقة عن فهم متجدد للمقاصد ، في بعض الكتابات الفكرية أو الفقهية المعاصرة ، من مثل أعمال الشيخين الفاضلين محمد الغزالي ويوسف القرضاوي ، وبعض الدراسات أو الرسائل الجامعية . وإنما نريد بهذا التحليل التنبيه على غياب المحاولات العلمية والأصولية المتكاملة في هذا المجال والمخصصة له .

إن التعامل مع موضوع المقاصد بشكل يبث روح الحياة فيه ، ويمتد بتأثيراته الخطيرة ، و يوسع آفاقه بحيث تحيط بدوائر أوسع من فعاليات النشاط البشري ، يتطلب إعادة النظر في صياغة المقاصد الشرعية على أنها تنحصر في مجرد "حفظ" الكليات الخمسة المعروفة . فإذا كانت هذه الكليات الخمسة قد استنبطت من الاستقراء لنصوص الشريعة وأحكامها ، فإن استعمال مصطلح (الحفظ) للدلالة على معنى إقامة هذه الكليات ورعايتها وتأصيلها ، بل وتأسيسها لتكون حاكمة على حياة الناس وتصرفاتهم ، وتزكية حياتهم بها ، قد يشوبه بعض القصور الذي يستدعي إعادة النظر والتحليل . ذلك أن من الواضح أن (الحفظ) يستدعي معنىً سكونياً لا أثر فيه للحركة والتزكية والحيوية والنماء .

1) فحفظ (الدين) يُختَزَلُ إلى حفظ النص المكتوب وبالتالي حفظ الأشكال والرسوم والحدود ، ولايتجاوز إلى الإشارة إلى ضرورة حفظ المضامين والأهداف والمقاصد والغايات . والفرق أن الفهم الأول سيُنْتِجُ رؤيةً عامةً لدور (الدين) في حياة الإنسان ، ولوسائل القياس والاستنباط ، ثم للفتاوى والأحكام المنبثقة عنها ، أكثر محدودية وأضيق مساحة وأقل آفاقا من الفهم الثاني ، الذي يمتلك القدرة الحيوية المطلوبة على الامتداد ، و على تغطية مساحات واسعة من فعاليات الحياة الإنسانية ، و على التعامل معها بشكل يبث فيها روح الحياة ، و يُطلق فيها معاني الحركة و النماء و التزكية .

2) وحفظ (النفس) يُختَزَلُ إلى حفظ أصل الحياة فقط ، وتضمر فيه العلاقة بقيم الحرية والكرامة والعزة ، التي لامعنى للحياة الإنسانية بدونها . ويتأكد اختزال المعنى وضموره البالغ عندما نرى إفراد حرمة القتل فقط على أنها المثال على هذه الكلية الشرعية ، بينما تخرج عناصر الحياة الأخرى من دائرة الاهتمام ، فلا يرد ذكر انتهاك الكرامة والحرية الإنسانية ، في الأدبيات الفقهية على سبيل المثال ، على أنه خرق أساسي وتجاوز خطير لمعنى حفظ (النفس) ، رغم كل النصوص الثابتة والمتواترة التي تؤكد على ارتباط هذه المعاني العميق بأصل وجود تلك (النفس) ، وعلى قيمتها الرمزية البالغة المنبثقة من كونها منحةً وهبةً من الخالق الكريم . فضلا عن الأمر الخطير المتمثل في تأكيد نصوص القرآن والسنة بشكل متكرر على اعتبار تلك المعاني علامة التميز عن باقي المخلوقات  ، وكونها مناط التكليف أصلا وقبل كل شيء آخر .

3) وحفظ (النسل) يُختَزَلُ إلى مستوى حفظ النطفة في الرحم ، ولا تتم الإشارة إلى أي معنى وراء هذا الأفق الفيزيائي البحت . ثم يتأكد هذا الاختزال عندما نرى إفرادَ حرمة الزنا كمثال على هذه الكلية الشرعية . بينما تغيب كل المعاني الأصيلة الكامنة وراء وجود الأسرة كوحدة أساسية للوجود الحضاري البشري على هذه الأرض ، وللآفاق الواسعة لعلاقة الرجل بالمرأة في الحياة ، فيما وراء الاتصال الجسدي المباشر ، ولأدوار ومهمات كل منهما لتحقيق ذلك الوجود . وتغيب الإشارة - أخيرا - إلى دور المعاني الكامنة في كلية (حفظ النسل) في توفير وتأصيل وتزكية الشروط والعوامل التي تساعد على حفظ تلك الوحدة ، وتنظيم تلك العلاقة ، وتأدية تلك الأدوار والواجبات .

4) وحفظ (العقل) يُختَزَلُ إلى مجرد حفظ الوعي والإدراك الحسي الخارجي الظاهر ، وتُغفل فيه الإشارة إلى ماينبغي أن ينتج عن وجود ذلك (العقل) أو الإدراك الخارجي الظاهر ، بحيث لا يقف الأمر عند مجرد (وجوده) ، بل تتم الدعوة إلى تأسيس وتأصيل و تزكية المعاني و الممارسات التي تعطي العقل دوره ليؤدي وظيفته في حياة الفرد والأمة. وإن مما يؤكد ذلك الاختزال إفرادُ حرمة شرب الخمر كمثالٍ على هذه الكلية في مجمل كتب الأصول . لتكون النتيجة في هذا الزمان واقعاً يجمع للأسف بين إنسانٍ يجتنب الخمر (في مُمارسةٍ هي في حقيقتها التزامٌ بمعنى حفظ العقل في حدها الأدنى) ، ولكنه - في الوقت نفسه - غيرُ قادرٍ على التفكير والاستفادة من مصادر المعرفة والتعامل مع الكون بمنطق الأسباب ، ليكون قادرا على تأمين الكفاية والمَنَعة . بينما ينطلق إنسانٌ آخر في مواقعَ أُخرى - وهولايلتزم باجتناب الخمر ، ويخرق معنى حفظ العقل بكل وضوح - لِيجُوبَ آفاق الكون ، ويكتشف سنن الحياة ، ويتعامل بمنطق الأسباب ، ويتحكم في مصائر البلاد والعباد ، في مُقابلةٍ مأساويةٍ وظالمةٍ لانود الدخول في تفاصيلها ، لكي لا (يكتشف) بعض (الأذكياء) في كلامنا إباحةً لِمُحَرَّمٍ ، أو ربما دعوةً إلى شرب الخمر على أنها سبيل البناء والتغيير ...

5) وأما حفظ (المال) فإنه يقتصر في أغلب الأحيان على الحفظ المادي البحت ، ولاتوجد الإشارة فيه إلى مجمل معاني السعي في الأرض والتنمية والعمل والبناء ، ولايوحي بالآفاق والأبعاد الاجتماعية والجماعية لوجود المال وحركته في الحياة بين الناس . ويتأكد هذا الاختزال بإفراد حرمة السرقة وحد القطع للدلالة على هذه الكلية الشرعية . أما إهدار المال الخاص والعام ، و تحكم العقلية الاستهلاكية، والفارق بين توظيف المال في المشاريع الانتاجية والاستهلاكية ، وأثر ذلك كله في تحقيق المقاصد الكبرى للشريعة على مستوى الجماعة البشرية ، أو حتى على مصير أفراد الأمة في الدنيا والآخرة ، أما كل ذلك فنادرا ما تتم الإشارة إليه على مستوى كتب الفقه والأصول .

وهكذا يمكننا أن نرى ملامح الاختزال في مجمل الطروحات الأصولية الفقهية التي تتناول تلك الكليات الشرعية من منطلق "الحفظ" السكوني البعيد عن التنمية والتزكية والارتقاء ، إلى درجة تفقد معها عملية الفهم المقاصدي للشريعة كل الحيوية والطاقة الكامنة فيها . وتفقد مبرر وجودها والحديث فيها . وبهذا تضيع أيضا المعالم المميزة للدور الخطير الذي ينتظر علم المقاصد ، والمتمثل في ردم الفجوة بين هدي القرآن والسنة من جهة ، وواقع الناس في قضاياهم ومعايشهم من جهة ثانية .

من هنا ، فإننا نرى أن إبقاء المقاصد على صورتها التاريخية وأمثلتها التاريخية ، وعلى أطرها وآفاقها المحددة ، سيجهض الدور الذي ينتظر هذا العلم ، مالم ينتهض لهذه المهمة الدارسون والباحثون لتأصيل المقاصد وتوسيع آفاقها ومعانيها ، بما يجعلها وسيلة الربط الفعالة بين واقع شارد يمثل حال أمتنا وحال البشرية اليوم ، وقمة الهدي الإلهي الخالد الذي قررته الرسالة الخاتمة.

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة