نتيجة لتقليد آراء وفتاوى العلماء ومحاولة استنساخها دون نظر أو أجتهاد يتناسب مع الواقع المتغير، أدى بدوره الى الشطط والزيغ عند بعض المسلمين في تنزيل ألأحكام على الواقع. ولأجل ترشيد المعلومات والخروج بنتيجة بعيدة عن التطرف والزيغ عن منهج الاسلام الصافي حاولنا في هذه المدونة طرح المقالات التي تتناول القواعد والثوابت التي تبنى عليها ألأحكام المتغيرة للوصول الى الفهم الصحيح لمصادر التشريع مستنيرين بآراء العلماء السابقين دون أستنساخ من أجل الخروج بما يلائم متغيرات الحياة والواقع الذي نمر به.
الأحد، 29 ديسمبر 2013
مـقـاصــد الـعــقـائــد
الاثنين، 16 ديسمبر 2013
حوار في المقاصد
رياض أدهمي
من أين تنبثق ضرورة الدعوة إلى فقه جديد معاصر ؟ ولماذا الإلحاح في كثير من المواقع على مصطلحات الاجتهاد والتجديد ؟ هذه أسئلة حساسة لا يمكن الإجابة عليها دون معرفة عميقة بأبعاد التحدي الذي تفرضه طبيعة الإسلام (وهو الرسالة العالمية الخاتمة) ، من حيث تأكيد صلاحيته وخلوده وقدرته على توليد إجابات أصيلة لأسئلة العصر وحوادثه وأقضيته المتجددة . وتأتي إشكالية القصور والاختزال الذي تؤول إليه المحاولات التقليدية المتكررة لشد ومد التراث الفقهي والفكري لعلمائنا الأعلام ، في محاولة لسحبه على واقع أمتنا والواقع العالمي المعاصر بحيث يجيب على جميع أسئلته ويعالج جميع مستجداته ، تأتي تلك الإشكالية لتكون سببا إضافيا في تلك الدعوات إلى فقه معاصر ، وإلى ضرورة التجديد والاجتهاد ، وذلك من منطلق خصوصية السياق التاريخي والاجتماعي والاقتصادي لعطاء أولئك الأئمة الأعلام السابقين ، وذهول أصحاب محاولات الشد والمد أو غفلتهم عن تلك الخصوصية ، وعن ضرورة استصحاب خصوصية هذا الزمان وسياقه - بالمقابل - في الأحكام والفتاوى المتعلقة بأقضيته وحوادثه .
إن من الممكن عند متابعة واستقراء تلك الدعوات التي تصدر عن مواقع متعددة في الأمة إلى ضرورة الاجتهاد والتجديد ، رؤية خط ناظم يجمع بين مختلف وجهات النظر يتمثل في الاهتمام بمقاصد الشريعة ، وبالدراسات والمصنفات التي تهتم بتنزيل فقه الأحكام ، واعتبار الواقع والعرف ومآل التصرفات . فلا تكاد تجد بحثا فكرياً أو محاولة فقهية إلا ويتضمن الاستفادة أو الإشارة أو الإحالة إلى ماكتبه الشاطبي في الموافقات ، مؤصلا فيه هذا العلم ، أو إلى ماكتبه ابن القيم في "إعلام الموقعين" ، أو إلى مفاهيم المصلحة والمنفعة والاستصلاح والتعليل بشكل عام .
ولا أدل على هذا الاهتمام من أن المعهد العالمي للفكر الإسلامي أصدر ثلاثة دراسات رائدة في موضوع المقاصد ، إضافة إلى دراسات رائدة أخرى نخص بالذكر منها على سبيل المثال دراسة نشأة علم المقاصد للأستاذ عبد المجيد الصغير . وإذا كانت هذه الدراسات الرائدة لموضوع المقاصد قد فتحت هذا الملف الخطير ، وكانت مؤشرا على أن الاهتمام بقضية الاجتهاد والتجديد في الأمة انتقل من مرحلة طرح الفكرة والدعوة إليها ، إلى ممارسة البحث فيها ، فإن من المناسب في هذه الفترة الانتقالية توسيع دائرة الحوار والبحث لكي يشمل تحرير المقاصد نفسها ، أو على وجه أدق ، تحرير آفاق المقاصد.
إن من الملفت للنظر في جميع الدراسات المقاصدية المعاصرة ، اقتصار النظر والبحث على أهمية المقاصد وتاريخ النظر إلى هذه القضية . ولكن المطلوب بإلحاح في هذه المرحلة إنما يتمثل في تحديد حقيقة معنى المقاصد الشرعية من حيث تعريفها وآفاقها ، بما يساعد الدارس على رسم إطار إسلامي للقضايا والمشكلات المعاصرة التي يعالجها . وهو مايكاد يكون هامشيا أو في المساحة الظليلية من تلك الأبحاث .
وحتى يتضح مرادنا من الكلام ، فإن المقاصد الشرعية بتقسيمها الخماسي ، والمتمثلة في حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال ، وإن مراتب المقاصد الشرعية بتقسيمها الثلاثي المتمثل بالضروريات والحاجيات والتحسينيات ، استمرت على ماهي عليه كما وضعها رائد علم المقاصد الإمام الجويني ، وتابعه عليها الإمام الغزالي ، وأخيرا كما أصَّلها وصاغها شيخ المقاصد الإمام الشاطبي . بينما كان إسهام الدراسات المقاصدية المعاصرة في تقديم إضافاتٍ نوعية قليلاً نسبياً في هذا المجال ، من مثل انتاج الإمام ابن عاشور الذي بدأ بما يمكن أن نسميه (توسيع آفاق المقاصد) عند مناقشته لقضية الحرية ومفهوم الفطرة ، أو ماطرحه الدكتور حامد العالم من كون التعلم مثالا على حفظ العقل ..
ولابد من التأكيد - رغم ذلك - إلى أننا لانقصد بهذا الكلام نفي وجود كثيرٍ من الإشارات والأفكار المضيئة ، والمنبثقة عن فهم متجدد للمقاصد ، في بعض الكتابات الفكرية أو الفقهية المعاصرة ، من مثل أعمال الشيخين الفاضلين محمد الغزالي ويوسف القرضاوي ، وبعض الدراسات أو الرسائل الجامعية . وإنما نريد بهذا التحليل التنبيه على غياب المحاولات العلمية والأصولية المتكاملة في هذا المجال والمخصصة له .
إن التعامل مع موضوع المقاصد بشكل يبث روح الحياة فيه ، ويمتد بتأثيراته الخطيرة ، و يوسع آفاقه بحيث تحيط بدوائر أوسع من فعاليات النشاط البشري ، يتطلب إعادة النظر في صياغة المقاصد الشرعية على أنها تنحصر في مجرد "حفظ" الكليات الخمسة المعروفة . فإذا كانت هذه الكليات الخمسة قد استنبطت من الاستقراء لنصوص الشريعة وأحكامها ، فإن استعمال مصطلح (الحفظ) للدلالة على معنى إقامة هذه الكليات ورعايتها وتأصيلها ، بل وتأسيسها لتكون حاكمة على حياة الناس وتصرفاتهم ، وتزكية حياتهم بها ، قد يشوبه بعض القصور الذي يستدعي إعادة النظر والتحليل . ذلك أن من الواضح أن (الحفظ) يستدعي معنىً سكونياً لا أثر فيه للحركة والتزكية والحيوية والنماء .
1) فحفظ (الدين) يُختَزَلُ إلى حفظ النص المكتوب وبالتالي حفظ الأشكال والرسوم والحدود ، ولايتجاوز إلى الإشارة إلى ضرورة حفظ المضامين والأهداف والمقاصد والغايات . والفرق أن الفهم الأول سيُنْتِجُ رؤيةً عامةً لدور (الدين) في حياة الإنسان ، ولوسائل القياس والاستنباط ، ثم للفتاوى والأحكام المنبثقة عنها ، أكثر محدودية وأضيق مساحة وأقل آفاقا من الفهم الثاني ، الذي يمتلك القدرة الحيوية المطلوبة على الامتداد ، و على تغطية مساحات واسعة من فعاليات الحياة الإنسانية ، و على التعامل معها بشكل يبث فيها روح الحياة ، و يُطلق فيها معاني الحركة و النماء و التزكية .
2) وحفظ (النفس) يُختَزَلُ إلى حفظ أصل الحياة فقط ، وتضمر فيه العلاقة بقيم الحرية والكرامة والعزة ، التي لامعنى للحياة الإنسانية بدونها . ويتأكد اختزال المعنى وضموره البالغ عندما نرى إفراد حرمة القتل فقط على أنها المثال على هذه الكلية الشرعية ، بينما تخرج عناصر الحياة الأخرى من دائرة الاهتمام ، فلا يرد ذكر انتهاك الكرامة والحرية الإنسانية ، في الأدبيات الفقهية على سبيل المثال ، على أنه خرق أساسي وتجاوز خطير لمعنى حفظ (النفس) ، رغم كل النصوص الثابتة والمتواترة التي تؤكد على ارتباط هذه المعاني العميق بأصل وجود تلك (النفس) ، وعلى قيمتها الرمزية البالغة المنبثقة من كونها منحةً وهبةً من الخالق الكريم . فضلا عن الأمر الخطير المتمثل في تأكيد نصوص القرآن والسنة بشكل متكرر على اعتبار تلك المعاني علامة التميز عن باقي المخلوقات ، وكونها مناط التكليف أصلا وقبل كل شيء آخر .
3) وحفظ (النسل) يُختَزَلُ إلى مستوى حفظ النطفة في الرحم ، ولا تتم الإشارة إلى أي معنى وراء هذا الأفق الفيزيائي البحت . ثم يتأكد هذا الاختزال عندما نرى إفرادَ حرمة الزنا كمثال على هذه الكلية الشرعية . بينما تغيب كل المعاني الأصيلة الكامنة وراء وجود الأسرة كوحدة أساسية للوجود الحضاري البشري على هذه الأرض ، وللآفاق الواسعة لعلاقة الرجل بالمرأة في الحياة ، فيما وراء الاتصال الجسدي المباشر ، ولأدوار ومهمات كل منهما لتحقيق ذلك الوجود . وتغيب الإشارة - أخيرا - إلى دور المعاني الكامنة في كلية (حفظ النسل) في توفير وتأصيل وتزكية الشروط والعوامل التي تساعد على حفظ تلك الوحدة ، وتنظيم تلك العلاقة ، وتأدية تلك الأدوار والواجبات .
4) وحفظ (العقل) يُختَزَلُ إلى مجرد حفظ الوعي والإدراك الحسي الخارجي الظاهر ، وتُغفل فيه الإشارة إلى ماينبغي أن ينتج عن وجود ذلك (العقل) أو الإدراك الخارجي الظاهر ، بحيث لا يقف الأمر عند مجرد (وجوده) ، بل تتم الدعوة إلى تأسيس وتأصيل و تزكية المعاني و الممارسات التي تعطي العقل دوره ليؤدي وظيفته في حياة الفرد والأمة. وإن مما يؤكد ذلك الاختزال إفرادُ حرمة شرب الخمر كمثالٍ على هذه الكلية في مجمل كتب الأصول . لتكون النتيجة في هذا الزمان واقعاً يجمع للأسف بين إنسانٍ يجتنب الخمر (في مُمارسةٍ هي في حقيقتها التزامٌ بمعنى حفظ العقل في حدها الأدنى) ، ولكنه - في الوقت نفسه - غيرُ قادرٍ على التفكير والاستفادة من مصادر المعرفة والتعامل مع الكون بمنطق الأسباب ، ليكون قادرا على تأمين الكفاية والمَنَعة . بينما ينطلق إنسانٌ آخر في مواقعَ أُخرى - وهولايلتزم باجتناب الخمر ، ويخرق معنى حفظ العقل بكل وضوح - لِيجُوبَ آفاق الكون ، ويكتشف سنن الحياة ، ويتعامل بمنطق الأسباب ، ويتحكم في مصائر البلاد والعباد ، في مُقابلةٍ مأساويةٍ وظالمةٍ لانود الدخول في تفاصيلها ، لكي لا (يكتشف) بعض (الأذكياء) في كلامنا إباحةً لِمُحَرَّمٍ ، أو ربما دعوةً إلى شرب الخمر على أنها سبيل البناء والتغيير ...
5) وأما حفظ (المال) فإنه يقتصر في أغلب الأحيان على الحفظ المادي البحت ، ولاتوجد الإشارة فيه إلى مجمل معاني السعي في الأرض والتنمية والعمل والبناء ، ولايوحي بالآفاق والأبعاد الاجتماعية والجماعية لوجود المال وحركته في الحياة بين الناس . ويتأكد هذا الاختزال بإفراد حرمة السرقة وحد القطع للدلالة على هذه الكلية الشرعية . أما إهدار المال الخاص والعام ، و تحكم العقلية الاستهلاكية، والفارق بين توظيف المال في المشاريع الانتاجية والاستهلاكية ، وأثر ذلك كله في تحقيق المقاصد الكبرى للشريعة على مستوى الجماعة البشرية ، أو حتى على مصير أفراد الأمة في الدنيا والآخرة ، أما كل ذلك فنادرا ما تتم الإشارة إليه على مستوى كتب الفقه والأصول .
وهكذا يمكننا أن نرى ملامح الاختزال في مجمل الطروحات الأصولية الفقهية التي تتناول تلك الكليات الشرعية من منطلق "الحفظ" السكوني البعيد عن التنمية والتزكية والارتقاء ، إلى درجة تفقد معها عملية الفهم المقاصدي للشريعة كل الحيوية والطاقة الكامنة فيها . وتفقد مبرر وجودها والحديث فيها . وبهذا تضيع أيضا المعالم المميزة للدور الخطير الذي ينتظر علم المقاصد ، والمتمثل في ردم الفجوة بين هدي القرآن والسنة من جهة ، وواقع الناس في قضاياهم ومعايشهم من جهة ثانية .
من هنا ، فإننا نرى أن إبقاء المقاصد على صورتها التاريخية وأمثلتها التاريخية ، وعلى أطرها وآفاقها المحددة ، سيجهض الدور الذي ينتظر هذا العلم ، مالم ينتهض لهذه المهمة الدارسون والباحثون لتأصيل المقاصد وتوسيع آفاقها ومعانيها ، بما يجعلها وسيلة الربط الفعالة بين واقع شارد يمثل حال أمتنا وحال البشرية اليوم ، وقمة الهدي الإلهي الخالد الذي قررته الرسالة الخاتمة.
