الاثنين، 23 يونيو 2014

تصورات خاطئة عن تطبيق الشريعة


إيجاز / د محمد عياش الكبيسي / أثيرت منذ أيام قضية الطبيبة السودانية التي حكم عليها القضاء السوداني بجلدها مائة جلدة بتهمة الزنا، ثم بإعدامها شنقا بتهمة الردّة، حيث إن المتهمة تزوجت من مسيحي، وهذا الزواج باطل شرعا، ثم لما سئلت عن ذلك أجابت بأنها مسيحية تبعا لوالدتها، بمعنى أنها تنفي ردّتها عن الإسلام لأنها لم تكن مسلمة من الأصل، وقد استغلت وسائل الإعلام الغربية وبعض القنوات العربية هذه الحادثة لإعادة الجدل حول فكرة «تطبيق الشريعة الإسلامية»، بينما تشكلت لوبيات أخرى للضغط على مختلف القوى في المجتمع الدولي للتدخل بينهم الرئيس الأميركي أوباما!
لا ينبغي تناول هذا الموضوع من الزاوية القضائية، فهذا ليس من صلاحية أحد إلا القضاء نفسه، والقضاء السوداني ليس محلا للتهمة، بيد أن هناك مساحة أوسع وأعمق بكثير من دائرة القضاء وهي التي ينبغي التفاكر والتحاور فيها، خاصة أن هذه الحادثة ترتبط في أذهان الناس بصور مشوشة ومشوهة كثيرا لتطبيق الشريعة.
ينقل الإعلام ووسائل التوثيق والتواصل الاجتماعي صورا تشكل بمجموعها ظاهرة جديرة بالدراسة والتأمل، فهناك صورة لامرأة أفغانية متسترة بحجابها الأفغاني المعروف، توضع في حفرة بعد ربطها بالحبال، ثم ينهال الرجال عليها بالحجارة حتى قضت أمام أنظارهم. وهناك صورة لمجموعة من «المجاهدين» في سوريا يحاولون بطريقة بدائية بتر يد أحد الشباب بتهمة السرقة، فلا يتمكنون من بترها إلا بالضرب المتكرر على المفصل وهو يصرخ من شدة الألم، وهناك عشرات وربما المئات من صور الرؤوس المقطوعة بتهمة الردة، وترى شابا ملتحيا يحمل أحد الرؤوس ويلهو به كأنه كرة بيده، بينما كان أحد المشايخ يلقي بموعظته الدينية والجهادية لبعض الشباب! وقد رأيت أحد الفتية مصابا بحالة نفسية وهو يضع يده على رقبته باستمرار، يقول لأنه في طفولته رأى «مجاهدا» يحمل سكينا يحز بها رأس أحد «المرتدين» في شارع عام من شوارع مدينة الرمادي العراقية. ولا يبعد عن هذه المظاهر ما قامت به جماعة بوكو حرام واختطافها لعشرات الطالبات ثم التعامل معهن كسبايا حرب وفق (تطبيق الشريعة) الذي يرونه!
وإذا كان القضاء السوداني يعمل بشكل مؤسسي ومهني وفي دولة لها سيادتها واستقرارها، فإن غالب الممارسات الأخرى تتم بطرق شاذّة وفوضوية بلا دولة ولا مؤسسة ولا رقابة، مما يجعلها أشبه بممارسات العصابات الإجرامية وإن تلبست لبوس الدين.
لا شك أن أحد أهم العوامل التي تقف خلف هذه الظاهرة هو السلوك الشاذ والبشع الذي تمارسه بعض القوى الدولية والحكومات المحلية، فجرائم الجيش الأميركي في «أبو غريب» والفلوجة، وما تقوم به اليوم حكومة المالكي وحكومة بشّار مما يندى له جبين الإنسانية، ومثل ذلك ما تقوم به العصابات المتوحشة في إفريقيا وبورما، كل هذا يجعل من هذا السلوك الشاذ حالة مألوفة ضمن المشهد العام للسلوك البشري على هذه الأرض، بالممارسة أو بالإقرار أو بالتغافل وعدم الاكتراث، فشعوب الغرب -دعك عن حكوماتها- لم تنطلق منها مظاهرة واحدة للتنديد بجرائم شيّ الأطفال المسلمين في بورما على مواقد النار، وما زالت روسيا والصين توفران الغطاء الكامل لجرائم الأسد حتى بعد استخدامه للسلاح الكيماوي ضدّ الأطفال والنساء وكبار السنّ.
إن هذه الجرائم المعولمة قد أسهمت بصناعة نفسيات مأزومة ومتوترة لدى عدد ليس بالقليل من شبابنا، حتى وصل إلى مرحلة التهوين وربما الاستنكار على كل من يحاول أن يقنعه بالرسالة الكلية للإسلام (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، وأن هذه الرسالة بالأساس جاءت لتنقذ هذا الإنسان المضطهد والمظلوم وليس للتماهي مع هذا الظلم والاضطهاد بمبررات القصاص والتعامل بالمثل، إذ إن الإسلام وفق هذا المفهوم الضيّق والمأزوم سيفقد خصوصيته وسيتحوّل إلى عنصر مضاف من عناصر الضنك والشقاء لهذه البشرية، وهذا ما أثبته الكثير من الممارسات «الجهادية» من أفغانستان والشيشان إلى الصومال واليمن ثم العراق وسوريا.
والملاحظ هنا أن هذا السلوك لم يأت كله انتقاما من الذين يقومون بتلك الجرائم ضد المسلمين والمظلومين، وإنما في الكثير من الأحيان يتم توظيف «الجرائم الأولى» خاصة فيما يتعلق بانتهاك الأعراض وهدم المساجد مثلا من أجل تجنيد العناصر البريئة والغيورة، ثم يتحوّل الأداء إلى تصفية حسابات فئوية و «جرائم ثانية» كما حصل بين «داعش» و «النصرة» وهما من مشرب واحد، وربما انتقل هذا السلوك إلى حالة عدوانية «شريرة» حتى مع الضعفاء والمساكين والمظلومين أنفسهم، وقد ذكر لي أحد المعتقلين السابقين في سجن بوكا -وهو السجن الأميركي الثاني بعد «أبو غريب»، أنه شهد بنفسه مجموعة من «المجاهدين» المعتقلين يقومون بتعزير رجل لتلبسه بجريمة التدخين، ثم انبرى ابنه وهو «مجاهد» أيضا فطلب من أميره أن يوكل أمر التعزير له حتى لا تأخذه العزة بالإثم فينتقم ممن آذى أباه، فسمح له «الأمير» بذلك، فقام يضرب أباه بالحذاء، والأب يقول: والله يا ابني أنا لا أفهم بالدين، لكن لا أظن أن دين محمد يرضى بهذا!
إن كل هذه الممارسات تتم تحت لافتة الإسلام و «تطبيق الشريعة»، وهذا يستدعي من علماء الشريعة بالذات أن يكون لهم موقفهم المناسب وأن يتحملوا مسؤوليتهم، خاصة بعد أن تمكن هؤلاء الشباب من عزلهم نهائيا عن الميدان، وفتح المجال لأسماء مستعارة (أبو فلان) و (أبو فلانة) ليفتوا ويقضوا في دماء الناس وأموالهم، من غير السماح بمناقشتهم أو حتى سؤالهم.
ومن الإنصاف أيضا أن نشير إلى وجود عامل آخر وهو حالة من الشغف والعطش لرؤية الشريعة الإسلامية واقعا على الأرض، بعد أن تم تغييبها إثر سقوط الخلافة الإسلامية وخضوع الأمة للهيمنة الأجنبية في الكثير من مقدراتها وخياراتها، مما مثّل جرحا نفسيا غائرا، ومن هنا يأتي الانتعاش النفسي برؤية المظاهر الشكلية لتطبيق الشريعة وإن كانت بطريقة شاذّة أو مشوّهة، إلا أن هذا التطبيق المشوّه من شأنه أن يقتل هذا الشغف ويحيله إلى حالة من الخوف والقلق، خاصة مع وجود الإعلام المناهض للشريعة وتطبيقها، فالمسلم لا يمكن أن يتردد في قبول الحكم الإسلامي، وإلا فهو لماذا مسلم؟ لكنك ترى اليوم كثيرا من المسلمين وربما من الوسط الشرعي نفسه من علماء وخطباء، يتخوفون بالفعل من الجماعات الإسلامية وينحازون للطرف الآخر ولو كان فاسدا أو مجهولا، وهذا قد لا يكون بالضرورة «نفاقا سياسيا»، بل هو أحد وجوه المشكلة التي تصنعها تلك الممارسات المنحرفة والشاذّة. وهناك أيضا خلط سياسي وإعلامي متعمد بين اللافتات الإسلامية كلها المتطرفة والمعتدلة والتي مارست التجربة والتي لم تمارسها، بحيث تتكون صورة واحدة في الذهن تجمع تحتها كل المشاريع العاملة على «الحل الإسلامي» أو «تطبيق الشريعة» مهما تباينت أو تناقضت.
يمكن القول إن أغلب الصور التي تنقل عن (تطبيق الشريعة) مهما كانت نوايا (المطبّقين)، أقرب إلى تشويه الشريعة وليس إلى تطبيقها، وهي بحاجة إلى محاكمة (شرعية) جادة وشاملة، فالمسألة لم تعد أخطاء شخصية أو اجتهادات جزئية، بل هي ظاهرة خطيرة قد تنعكس بمرور الزمن إلى رأي عام رافض أو مشكك بصلاحية الشريعة ذاتها.
لو بدأنا مثلا بحادثة رجم المرأة الأفغانية، كيف ثبت هذا الحد؟ والزنا لا يثبت شرعا إلا بالإقرار، أو بشهادة أربعة رجال عدول يتفقون كلهم على رواية واحدة ودقيقة لعملية الزنا (كالميل في المكحلة) بتعبير الفقهاء! وهذا لا يحصل حتى في أكثر المجتمعات تحللا وفسادا، وعلى فرض حصوله في بيئة شاذّة فإن وجود أربعة رجال (عدول) في تلك البيئة هو أمر مستبعد، ولو حصل افتراضا فهو شبهة في الشهود تكفي لرد شهادتهم، والله يقول: (لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) النور 13، أما الإقرار فهو إنما يعبّر عن حالة إيمانية عميقة لدى المذنب تجعله يطلب العقوبة ويسعد بها -كما حصل في قصة الغامدية- مع أن الإسلام لا يوجب ذلك، والفقهاء يرجحون الستر على طلب العقوبة، ونصّوا على أن المقرّ لو تراجع عن إقراره سقط عنه الحد، فهل كانت المرأة الأفغانية بهذا الفقه أو بهذا المستوى من الإيمان لتختار بنفسها الفضيحة بين الناس والرجم بالحجارة حتى الموت، مع أن الأمر فيه كل هذا المتسع؟!
الملاحظ أيضا أن هذا الشغف بمعاقبة (المذنبين) كثيرا ما يأتي مقترنا بذنوب من قبل (المطبّقين) قد تكون أشد بكثير من تلك الذنوب، وأذكر هنا حادثتين اثنتين:
الأولى من أفغانستان، وقد ذكرها لي أخي الأستاذ وضاح خنفر الإعلامي والمفكر المعروف، فقد كان مع فريق لقناة الجزيرة بصدد إعداد تقرير عن زراعة المخدرات في أفغانستان، وقد اختاروا منطقة في جلال آباد معروفة بزراعة الأفيون، قال: لما وصلنا المنطقة أحاط بنا بعض المسلحين وكادوا يقتلوننا ظنا منهم أن كاميراتنا هي أجهزة تضر بالأفيون! وأن (الكفار) قد بعثونا لتدمير المورد الأساس للجهاد! وقد جلس المسكين يكرر الشهادتين ويقرأ لهم القرآن ليثبت أنه مسلم، وصار يعتذر لهم عن حلقه للحيته لأنه فلسطيني واليهود في فلسطين يمنعون الفلسطينيين من المظاهر الإسلامية، حتى تمكن من كسب ودّهم وعطفهم، ثم تجرأ فسألهم: كيف أنتم مجاهدون وتزرعون المخدرات؟ فقالوا له: نحن نزرعها ونبيعها للكفار فنخدّرهم بها ثم نقتلهم بفلوسهم!
أما الثانية فكانت في العراق، وسأنقلها بالنص من شهادة أبي سليمان محمد الثبيتي العتيبي القاضي الشرعي لدولة العراق الإسلامية، في رسالته إلى شيوخ القاعدة في خراسان: (.. وسرقة أموال الناس باسم الدولة، ولقد شهدت بنفسي حوادث من هذه، منها ما قام به أمير سرايا الجهاد سابقاً -وهو نائب أمير المؤمنين حالياً أبو عبدالرحمن الفلاحي- حيث غنمت جماعته ستاً وعشرين شاحنة، وقيمة البضائع للشاحنة الواحدة دفتران ونصف عدا قيمة الشاحنة نفسها، فلما اشتكى صاحبها ووصلت لي شكواه استدعيت هذا الرجل فقال لي معتذراً عن هذه الأموال بأنها أموال للرافضة، ولم يُثبت لي ذلك، فلما أثبتنا أنها أموال سنّة قال لي نعم أموال سني، ولكن صاحبها عليه دين للدولة الإسلامية، فلما طالبته بإحصاء الدين وجدنا أن الدين لا يصل إلى قيمة شاحنة واحدة فضلاً عن ست وعشرين شاحنة، فقال لي هذا الرجل -وهو نائب أمير المؤمنين- لقد أخذت هذا المال تعزيراً، لأن عندي أمرا من أبي حمزة بأخذ أي أموال للتجار تذهب إلى بغداد، فسألت عن هذا الأمر فأنكره وقال: لم يصدر مني هذا، ثم قال لي ما نصه بالحرف الواحد: (يا شيخ أبا سليمان أنت قاضي عام الدولة، فلا تدخل في أي قضية حتى نحيلها نحن إليك، لكيلا تذهب هيبتك). ففهمت أن هذا هروب من مواجهة هذا الرجل.. علماً بأن هذا التاجر رجل معروف ويساعد الإخوة في تنظيم القاعدة سابقاً في تهريب مواد متفجرة وأجهزة تفجير عن بعد.. والكل يعرفه في الأنبار).
فانظر كيف يعاقبون رجلا مسكينا بتهمة (التدخين) ثم هم يزرعون المخدرات! ويقطعون يد شاب مسلم بتهمة السرقة، ونائب أمير المؤمنين عندهم يسرق ستا وعشرين شاحنة محملة من مسلم سنّي متعاون معهم! وحين يتجرأ عالم أو مفكر لنقد هذه الظاهرة وعزلها عن اسم الإسلام وشريعته، ينبري بعض المخدوعين والمغرر بهم لتصوير هذا النقد وكأنه طعن في الدين وانتقاص من الجهاد والمجاهدين، وهذا تأكيد لإلصاق هذا الشذوذ والانحراف بالدين نفسه، وهو ما ينطوي على مجازفة خطيرة بسمعة الإسلام ومقبوليته، خاصة إذا جاءت هذه الدفوع من شخصيات لها صبغة دينية أو شرعية. إن النقطة المنهجية الأولى التي ينبغي الاستناد إليها تكمن في تفكيك عبارة (تطبيق الشريعة)، فالشريعة شيء، والتطبيق شيء آخر، الشريعة وحي ودين، والتطبيق فعل بشري، المشرّع هو الله، والمطبّق هو الإنسان، وهذا يعني أننا ننقد التطبيق وقد نرفضه دون أن يؤثر هذا في ديننا وعقيدتنا، ومثل ذلك التفريق بين (الشريعة الإسلامية) و (الدولة الإسلامية)، فالدولة كيان بشري وليست دينا منزلا ولا وحيا مقدسا، وهذا الكيان إنما يقترب من الصواب بقدر قربه من الشريعة، لكنه ليس هو الشريعة، فمن اعترض على الدولة وأدائها حتى لو كانت دولة الخلافة الراشدة لا يعد معترضا على الشريعة، ولذلك كان توصيف الخليفة الراشد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لمن خرج عليه من المسلمين (إخواننا بغوا علينا)، فالبغي عليه شيء، والبغي على الإسلام شيء آخر، وإذا كان هذا بحق أمير المؤمنين ودولته الراشدة العادلة، فكيف بالمجاهيل ممن منحوا أنفسهم ألقاب الخلفاء والأمراء؟ وكيف بالمحاكم التي تقضي وتنفذ في الكهوف بأسماء وهمية وألقاب مستعارة؟
هناك الكثير ممن سجلوا هذه الملاحظات والخروقات الخطيرة، لكنه ما زال يظن أن نقده لهذه الظاهرة إنما يصبّ في خدمة العدو، والصحيح هو العكس، فـ (المجاهدون) قد دخلوا في صراعات داخلية طاحنة بسبب هذه الممارسات والتصورات المختلفة عن الشريعة، حتى ضمن المدرسة الواحدة، كما أن هذه الحركات خسرت الحاضنة الشعبية وأثارت فيها قدرا كبيرا من الشتات في الرأي والفوضى في التفكير وعدم القدرة على اتخاذ القرار الصحيح، ولو قارنا مثلا بين أداء المقاومة العراقية قبل ظهور (الدولة الإسلامية) وبعده، لوجدنا حجم الكارثة التي أصابت الساحة المقاومة بالكامل، والشيء نفسه تكرر في المشهد السوري، ثم عادت الكرة إلى العراق من جديد، حيث انتفض السنّة بكل توجهاتهم لسنة كاملة ضد سياسات المالكي الطائفية، ثم لما قام المالكي باجتياح ساحة العزة والكرامة في الرمادي انتفض الناس بلا عنوان ولا حزب ولا لافتة، ثم حصلت الكارثة من جديد وفقدت الجماهير حماسها بعد إصرار (داعش) على رفع راياتها وإعلان ولاياتها وإماراتها، وهذا ما يفسّر خروج أغلب الفلوجيين عن فلوجتهم، وعزوف السامرائيين عن القتال بعد أن دارت رحاه ليوم كامل في أحيائهم وأزقتهم، فهل هناك خدمة للعدو أكثر من هذا؟
في الوسط الإسلامي تدور تساؤلات ومناقشات حول إمكانية اتباع سياسة التدرج في تطبيق الشريعة، بين من يرى أن الشريعة نفسها قد جاءت متدرجة بحسب تطور المجتمع المسلم من مكة إلى المدينة ومن حالة الاستضعاف إلى التأسيس ثم التمكين ثم مرحلة الفتح والتوسع، وبين من يرى أن ذلك التدرج كان تدرجاً (سماوياً) لا يحق لأحد أن يكرره حتى لو تكررت تلك المراحل نفسها في مجتمعات أخرى.
الحقيقة أن هذا النمط من التفكير يعد إحدى المشكلات المنهجية والتي قد تعبّر عن تصورات مرتبكة لفلسفة التشريع ومبادئه ومنطلقاته، وقد رأيت من يحاول مثلا بناء استراتيجية العمل الإسلامي اليوم وفق تصنيفات كتب السيرة النبوية لمراحل الدعوة السرية ثم العلنية ثم الهجرة ثم الدولة! ويظن أن الحركة الإسلامية لا بد أن تعيد هذه المسيرة بهذه المراحل ذاتها، ويتطرف آخرون ليلزموا أنفسهم بالمدة الزمنية (الواردة) لكل مرحلة!
مما نقرأه في هذا الصدد أن الرسول صلى الله عليه وسلم مكث ثلاث عشرة سنة لتأسيس العقيدة وبناء النفوس القادرة على تحمل أعباء الدولة، والحقيقة أن هذه المدة لم تكن قراراً في استراتيجية الدعوة، بل هي اضطرار وانتظار، وحين أسلم أهل المدينة من الأوس والخزرج أصبحت الهجرة إليها حلا أكيدا للتخلص من سطوة قريش، والسؤال هنا؛ ماذا لو أسلم الأوس والخزرج قبل ذلك التاريخ؟ هل كان عليه الصلاة والسلام يؤجل الهجرة إليهم ليستكمل الفترة الزمنية اللازمة لهذا الإعداد الإيماني والتربوي؟ الجواب وبكل تأكيد؛ لا، لأنه عليه الصلاة والسلام كان قد بحث بنفسه عن مكان آخر غير مكة كما في قصة الطائف، ولو رحّب به أهل الطائف لاستجاب بكل تأكيد، وهذا معناه أن الثلاث عشرة سنة ما كانت إلا واقعة حال أملتها ظروف معينة وفي بيئة أرضية معينة ولا شأن لها بالوحي والتشريع السماوي.
أما النقاش في مسألة (التدرج)، فقد جاء الارتباك بسبب الخلط بين مقولة (التشريع) وبين مقولة (التطبيق)، فالتشريع هو تحليل وتحريم وهو حق إلهي بحت «أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ» الشورى 21، بخلاف (التطبيق) والذي هو فعل بشري تتحكم فيه حيثيات كثيرة ومختلفة تتعلق بطبيعة الزمان والمكان والأرض والمجتمع، وتتفاوت مسؤوليته من شخص إلى آخر، وهنا ينبغي التمييز أيضا بين (التطبيق الفردي) وهذا خارج سياق النقاش أصلاً، وبين (تطبيق الدولة) وهو المقصود عادة بهذا المصطلح، فالنقاش لا يدور حول أداء الفرد هل يشرب الخمر مثلا أو لا؟ وإنما النقاش حول من الذي يحق له أن يلزم الآخرين بهذا الحكم ومتى وكيف؟
إن تطبيق الشريعة بهذا المعنى ينبغي أن يخرج تماماً عن دائرة الأفراد والمجتمعات وأن يبقى منحصرا في دائرة (الدولة)، فمسؤولية الإلزام تتطلب سلطة شرعية ووضعاً قانونياً صحيحاً وآليات محددة للتنفيذ والفصل بين الخصومات وتلقي الشكاوى والدفوعات، وهذا محل تأصيل وبحث طويل في تراثنا الفقهي، وإنه لمن الخطأ والخطر أن يقرأ المسلم حكماً شرعياً فيمنح لنفسه صلاحية تنفيذه في الآخرين متجاوزاً حكم الله نفسه المتعلق بتحديد المسؤوليات والصلاحيات، فلو قرأت مثلاً قوله تعالى: « وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا» ثم ذهبت تقطع يد الخادم أو العامل الذي عندك فهذه فوضى وهمجية يتنزه الإسلام أن ينحدر إلى دركها، وهذا ما هو حاصل بالضبط في الكثير من ممارسات الجماعات (الجهادية) فلكل جماعة قاض يحكم بقتل المرتد وقطع السارق دون أن يعرف الناس ما اسم هذا القاضي وما عمره وما تحصيله العلمي وما هي خبرته وأين مكانه ومكتبه؟! وقد قدّر الله لي أن ألتقي بأحد هؤلاء القضاة، وكانت فرصة للتعرف عن قرب على ملابسات هذا العمل، وكان مما سألته عنه في طبيعة عمله؛ هل تتيحون فرصة لشهود الدفاع أو لأهل المتهم بتقديم ما عندهم من معلومات؟! فقال: طبعا لا، لأن ظروف عملنا تتطلب السرّية والتخفي! قلت: فهل تعتقد أن القضاء الشرعي العادل ممكن أن يكون سرياً؟ قال: والله لا أدري لكن هذا هو المتيسر «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»!!
إن الخطاب القرآني مثل: (قاتلوا) و (اقطعوا) و(اجلدوا) و(خذ من أموالهم) موجه للدولة وليس للأفراد أو الجماعات، وإن أي تنفيذ له خارج نطاق الدولة هو خروج عن الشرع نفسه، وتشجيع للفوضى والدمار وإن جاء بثوب ديني وتحت راية دينية، عدا حالة الدفاع عن النفس والتي لها تأصيلها الخاص وفقهها.
والدولة ذاتها لا يحق لها تطبيق هذه الأحكام كيفما اتفق، بل عليها مراعاة المقتضيات الشرعية للتطبيق والتي يغفل عنها الكثير، ومنها:
أولا: مراعاة طبيعة العقد الاجتماعي بينها وبين شعبها بكل مكوناته وشرائحه، فالحكومة تستمد شرعيتها من الشعب، وهذه الشرعية محددة بطبيعة التفويض والتخويل الشعبي، فالنص الديني لوحده لا يعطي الصلاحية لفلان دون فلان، وعليه فالناس إذا أرادوا تطبيق الشريعة فإنهم سيفوضون حاكما أو حكومة ما بالتنفيذ، وإن لم تصل قناعة الناس ووعيهم إلى هذا المستوى، فينبغي على العلماء والدعاة أن يرتفعوا بوعي الناس وفهمهم للدين وأحكامه ولا يحق لجهة ما أن تمنح لنفسها بالقوة صلاحية التطبيق القهري والقسري، كيف والله يقول: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»، وقد رأينا الشرع نفسه يبيح لأهل الذمة أن يمارسوا شعائرهم مع ما فيها من عقائد (شركية) في بلاد المسلمين وتحت حماية الخلافة (الإسلامية)، ويشربوا الخمر أيضا ويصنعونها ويبيعونها لبعضهم البعض، وهذا كله بمقتضى العقد (الذمة) الذي بينهم وبين الدولة، هذا ليس معناه التشكيك بحرمة الخمر أو التدرج في بيان الحكم، وإنما هو الفارق المهم بين منهجية (البيان) و(منهجية التطبيق)، فالبيان لا يحتمل إلا الصراحة والوضوح «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ» المائدة 74، وأما التطبيق فهو الذي يتسع لمرونة واحتمالات ومقتضيات وخصوصيات الأرض والزمان والإنسان.
ثانيا: أن العقد الذي بين الدولة (الحكومة) وبين شعبها يتضمن مسؤوليات متقابلة، فالتفويض يقابله التزام، وإذا كان للدولة أن تعاقب فعليها قبل ذلك أن تفي بالتزاماتها في الحرية والعدل والخدمات والتربية والتعليم وحسم أسباب الجريمة قبل وقوعها، وانظر كيف يشترط الفقهاء في حد السرقة مثلا أن لا يكون للسارق شبهة كأن يكون عاملاً مهضوم الحق أو جائعاً مضطراً لدفع الجوع عن نفسه أو أن هناك سوءاً في إدارة المال كالمال الذي ليس له (حرز) أو المال (السائب)، وقد أوقف عمر بن الخطاب بالفعل حدّ السرقة في عام الرمادة (المجاعة)، ونحو هذا إيقاف الحدود أثناء الحرب، ومن المفارقات أن شهوة الجماعات المسلحة في إقامة الحدود تتزايد أيام الحروب والفتن والجوع والجهل، وهذا كله يسير بعكس المنهجية الإسلامية الصحيحة في التطبيق.


عن العرب القطرية


أريد فتوى



إيجاز / د.رياض أدهمي / لقيني صاحبي، وبعد السلام وشيء من الكلام قال: أريد فتوى بشأن المعاملات المالية التي تجري عبر شاشة الكمبيوتر في أسواق المضاربات، هل هي حرام أم حلال؟
قلت: لست خبيراً في هذا الباب من التعامل حتى تطلب مني هذا  لأتنطع للجواب على هذه المسألة بغير علم .
قال: نعم أعرف أن الفتوى كلمة كبيرة تتحرج منها، ولكن قل لي كيف تشعر تجاه هذا الأمر؟
قلت: أشعر أن السؤال مغلوط وطرح الأمر بهذا الشكل هو مشكلة بحد ذاته، والسؤال المغلوط ليس له جواب.
قال: لم أفهم، فماذا تعني أن السؤال خطأ، أليس من واجب المسلم أن يسأل عن أي أمر أحرام أم حلال قبل أن يقدم عليه؟
قلت: هذا صحيح ولكنه في نفس الوقت هو شرك يقع فيه الناس عند تبسيط الأمور بشكل مخل.  فكثيراً ما يطرح الناس سؤالاً يبدو بسيطاً بريئاً ولكنه في الوقت نفسه يضع إطاراً مغلوطاً لتناول الموضوع، أو يتجاهل الإطار الصحيح الذي ينبغي أن توضع فيها التفاصيل، فيكون الجواب مهما كان اتجاهه سلباً أم إيجاباً محض تمويه.
قال : هات بعض الأمثلة.
قلت : أعود إلى سؤالك عن المضاربات المالية عبر شبكات الإتصال، فلو أن صورة المسألة أن رجلاً اشترى سهماً من أسهم شركة بمبلغ من المال ثم باعه بعد فترة فربح شيئاً ما، هل هذا حلال أم حرام؟ فهذه الصورة البريئة تقترح أن كل ما تغير عند استعمال شبكات الاتصال عبر الكمبيوتر هو شكل إجراء البيع والشراء وتفاصيل التوثيق ليس إلا.
ولكن هذه الصورة البريئة البسيطة تخفي وراءها كارثة، ولعل الأدهى أن كثيراً ممن يخوض في هذا الشرك فيمضي في الكلام على عماية.
ولعلها مسؤولية السائل قبل كل شيء أن يعلم أن للمال وظيفة اجتماعية، فهو مال الأمة في رعاية مالكه، فلا جناح أن يجني المالك الربح من أي تعامل يقوم على العدل.  ولكن الأهم أن مصالح الأمة هي المعيار الأول للقضية كلها.  والآية الكريمة تقرر وظيفة المال: " ...أموالكم التي جعل الله لكم قياماً " .  فهناك مصالح لابد من تحقيقها ليقوم المجتمع، وإذا غاب المال لم تتحقق المصالح ولم تقم للأمة قائمة ولم تسد كفاية من تأمين المرافق وفرص العمل لينتفع الكل بالكل.
ففي غياب هذه النظرة المقاصدية لوظيفة المال أي جواب عن تفاصيل التعامل لايغني شيئاً عن الكارثة التي تحل بالأمة إذا جلس كل صاحب ثروة مهما كانت كبيرة أوصغيرة خلف شاشة الكمبيوتر وقرر أن يصب بما عنده من موارد في هذه الشركة أو تلك،  والنتيجة أن الأمة لا تملك مالاً يقوم بحاجاتها، بل تساهم هي في دوران وتغذية نظام عملاق آخر لا علاقة له بالأمة ووظيفة المال فيها .
وقد يكون من عقابيل هذا التوجيه أن الأمة تـُحرم المال وتحرم تراكم الخبرة الفنية اللازمة لإدارته واستثماره، وتكرر تجارب خيبة الأمل والفشل ويلجأ الناس إلى الحل السهل بالاستثمار في أسواق ليس من برنامجها ولا ما تفكر فيه تأمين فرص العمل الشريف لأبناء الأمة وتنمية خبراتها في القيام بمصالحها. 
فأسألك بالله هل هناك جواب سهل مباشر لمثل هذا الموقف . فهذا بالذات ما أعنيه بأن السؤال المغلوط لا جواب له . وإذا كنت لا أعلم تفاصيل الاجراءات الفنية لا أتنطع بالقول حرام أو حلال . ولكني أعلم أن هذا الإطار الكلي المقاصدي الجامع المتمثل في تحرير وظيفة المال في الأمة هو الأساس ويمثل البداية الصحيحة لتناول الموضوع ابتداءا من السائل الذي اتمنه الله على مصالح الأمة وانتهاء بالمفتي الذي يتناول تفاصيل القضايا الإجرائية للتأكد من انطباقها على مقياس العدل.
ولازلت أذكر سؤالا كان يتردد بشكل بريء عن تحويل الأموال من بلد إلى بلد هل هو حرام أم حلال. فالصياغة البريئة تتساءل عن رجل جمع نقوده وسافر إلى بلد آخر فهل عليه من شيء يلام لأجله.
وتمضي الأيام لنعلم أن هذا السؤال البريء يعبر عن ممارسة أدت إلى كارثة اقتصادية حرمت الأمة من أموالها وفقدت الغطاء النقدي للعملات الأجنبية لقضاء المصالح وتدهورت قيمة العملة وزاد التضخم وأصبح الفقير ذو العيال لايستطيع أن يشتري بما كان بالأمس القريب يكفيه ليعيش بالكفاف لشهر ما يستطيع أن يسد حاجته لأسبوع فهل نستطيع أن نتجاهل معاناة الفقراء واتساع أعدادهم والضنك الذي يعيشون فيه.  وهل ينكر عاقل أن ممارسة أصحاب الأموال كانت من جملة ما عجل بالكارثة وضيع كفايات الأمة ومواردها وصبّها في إطار آخر لا علاقة له بمصالح الأمة من قريب أو بعيد .
إن إختزال ((اسلامية)) أي تصرف إلى فتوى مختصرة - حرام أو حلال - هو مرض يجب أن نعده العدة لمواجهته بما يليق من الدأب والصبر والبحث والدراسة، وقبل كل شيء بامتلاك البصيرة العملية التي تتحسس مواقع التصرفات في نسيج الأمة ومآلات الأفعال في كيانها حتى نحسن السؤال فنشارك في بناء التوجه المقاصدي العملي لتلمس مواضع الصواب في العمل، والله المستعان .
 
المصدر / مجلة الرشاد
 

فتاوى الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - مثال صالح لللإجتهاد المقاصدي



إيجاز / د.رياض أدهمي / عندما يواجه المسلم بمواقف أو قضايا في أمر دينه أو دنياه، يتحرّى معرفة الحكم الشرعي باستفتاء عالم يرضى دينه و استقامته. و هنا تقع المسؤولية على عاتق المفـتي في أن يختار في جوابه عما سئل عنه الطريق الذي يفتح للسائل باب الفهم للمقاصد العامة للشريعة و أين يقع سؤاله منها، و يعطيه البصيرة التي تعينه على إدراك الحِكم و الدروس و العِبر فيما وضعته الشريعة من ضوابط و معايير لتزكية الحياة و القيام بمصالح العباد.
إن هذا التوجه في عرض أحكام الشريعة سبق أن أشرنا إليه في مقال سابق " الإجتهاد المقاصدي " و بيّـنا هناك أن الإجتهاد المقاصدي هو التوجه الذي يتحرى فهم المعاني المعقولة المستكنّة في أحكام الشريعة و يتحرى الربط بينها و بين تزكية الحياة و تأصيل الرحمة، و يتحرى كذلك ضبط الروايات بكليات الشريعة حيث تُجمع النصوص الواردة في الموضوع الواحد، و يستحضَر ما أمكن سياقها و ظروفها، ثم محاولة استخراج المعنى المعقول الذي يضم كل النصوص بخيط واحد و روح واحدة.
و بيـّنا كذلك أن منهجية المقاصد هي منهجية وظيفية، فالشرع لم يأت بنصٍ أو حكمٍ إلا لوظيفة عملية و دور في بناء النفس و استقامة العقل و الجوارح لتزكية الحياة و جعلها مباركة طيبة لا ضنك فيها ولا عسر و لا مشقة كما أرادها القرآن. و استعرضنا في المقال بعض الأمثلة والقضايا التي توضح و تشرح كمون و آفاق مفهوم المقاصد.
 و في هذا المقال أستعرض مجموعة أُخرى من الأمثلة على الفتاوى التي تستلهم منهجية المقاصد في العرض و الصياغة، و تؤصل الكليات قبل الخوض في الفروع، و بذلك تضع السؤال في موضعه و حجمه من مجمل الهدي الذي جاءت به الشريعة.
يمثل كتاب " فتاوى علي الطنطاوي " مصدراً مفيداً لبيان منهجية المقاصد، حيث اشتمل على الكثير من الفتاوى التي نحا الشيخ الطنطاوي رحمه الله في الجواب عليها منحى التعريف بالكليات و المعاني و الأصول التي تتعلق بالسؤال قبل بيان الحكم أو الفتوى. و قد كان الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله يتمتع باسلوب سهل مباشر بسيط مع دعابة محببة، و علم و دراية بالنصوص و اللغة و المذاهب، و يجمع إلى ذلك منطق عملي و معرفة بواقع العصر أتاحها له اشتغاله بالقضاء لسنوات طويلة و مشاركته في صياغة قانون الأحوال الشخصية.
و سأعرض - فيما يلي – مختصراً لبعض فتاواه التي صيغت على نمط واضح من تأصيل المقاصد و المعاني قبل محاولة الإجابة التفصيلية، و إن كانت الفتاوى في مجملها تحمل ذات الروح العملية الواقعية البعيدة عن الحرفية و الجدال النظري و الإنتصار للمذاهب.
 
الغناء و الموسيقى
كتب الشيخ في جوابه عن سؤال يتعلق بالغناء و الموسيقى هذه المقدمات :
·      ينبغي أن نعرف ماهو الحرام. فالحرام عند الحنفية هو الأمر الذي ثبت النهي عنه بدليل قطعي الورود قطعي الدلالة، و هو الآية المحكمة التي تدل على النهي دلالة محققة، و الحديث المتواتر الذي تلقته الأمة بالقبول و كانت دلالته على التحريم محققة، و ما أجمع المسلمون على تحريمه، و ما ثبت حرمته بالقياس الصحيح.
·      من المحرمات ما استقبحه الشرع لذاته، كشرب الخمر و الربا و الزنا. و منها ما حرم بالنص لأنه يجرّ إلى المحرم ككشف العورات و النظر إليها اللذين يجران إلى الزنا.
·      القسم الأول ( و هو المستقبح لذاته شرعاً ) لا يجوز ارتكابه إلا في حال الضرورة، و الضرورة هي التي تكون مسألة حياة أو موت. و القسم الثاني ( أي الذي حرِّم لأنه يجر إلى المحرَّم ) يجوز عند الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، كدفع المرض أو حفظ المال.
·      الضرورة تقدر بقدرها، فمن غصَّ باللقمة و لم يجد لإساغتها إلا الخمر جاز له أن يشرب بمقدار ما يدفع الغصة و يسيغ اللقمة، لا أن يشرب القارورة كلها. و الحاجة مثلها، فالطبيب له أن يرى من المرأة ما يتوقف العلاج على النظر إليه أو لمسه...
·      فلنأت الآن إلى الغناء و الموسيقى، هل السؤال عنهما باعتبارهما أصواتاً تسر بإيقاعها النفس و تستميل الأذن ؟ و بلفظ آخر: هل حـرّم الشّرع سماع الأصوات المطربة المتناسقة لأنه استقبحها لذاتها ؟ لا. و لو أن إنساناً جمع في بيته الطيور المغردة البلابل و الشحارير و استمع إليها فطرب لأصواتها لما كان في عمله محظور، فليس الغناء و الموسيقى مما استقبحه الشرع لذاته، لكن يطرأ عليها التحريم في حالات:
الأولى : من جهة الكلام الذي يتغنى به، فإن كان فيه ما يمس العقيدة أو يدعو إلى محرم أو  ينفر من واجب أو كان فيه غزل مكشوف أو غزل بامرأة معينة معروفة لم يَـجُـز. أما الغزل العفيف فلا مانع منه، و بمَ يتغنى الناس إن لم يتغنوا بشعر الغزل ؟ هل يكون الغناء بألفية ابن مالك في النحو ؟
الثانية : حال المغني و السامع. فإن غنـّت المرأة للرجال الأجانب لم يَجـُز لأن الصوت بالتطريب ( لا الكلام العادي بالصوت العادي ) يعتبر عورة و لو كان بقراءة القرآن.
الثالثة : وقت الغناء : فإن كان وقت أداء واجب ديني أو دنيوي و الغناء يشغل السامع عنه لم يَجـُز. و إن طال الوقت حتى صار سماع الغناء عادة لا يستطيع تركها كان الأولى عدم سماعه.
الرابعة : مجلس الغناء، فإن كان فيه محرّم كالخمر أو الإختلاط بين الرجل و المرأة الأجنبية عنه لم يَجـُز.
الخامسة : أثره في نفس سامعه، و هذا مقياس شخصي،فمن كان يعلم من نفسه أن الغناء و الموسيقى يدفعانه إلى الحرام أو يصرفانه عن واجب، لم يجز له أن يسمع، كالشاب العزب يسمع الغناء الذي يصف لوعة العاشق و جمال المعشوق، فيثير في نفسه طاقة ليس أمامه مصرف لها ( كما يكون أمام المتزوج )، فيفتش عن مصرف حرام فيقع فيه، أو يكتم هذه الطاقة في صدره فتؤذيه و تضنيه و تصرفه عن مطالب العيش و أسباب الدراسة و ما يحتاج إليه من عمل.  و هذا المقياس ينطبق أيضاً على الألحان الموسيقية المجردة عن الكلمات، و رب لحن يسمعه المرء يذكـّره بالمكان الذي سمعه فيه و من كان معه في ذلك  المكان فيسبب له التفكير فيه رغبة في الحرام و شوقاً إليه. و ربما كان قد سمع اللحن في مكان لا يسمح الشرع بدخوله، بل إن من النغمات ما يهيج العاطفة أو يبعث النشاط أو يحزن أو يرقـّص، فمن دفعه اللحن إلى الحرام حرم عليه سماعه.
فما لم يكن فيه شيء من ذلك، كأن يغني المرء أو يعزف لنفسه في وقت فراغه، أو تغني المرأة لزوجها أو للنساء، أو يغني الرجل للرجال بالشروط التي سبق ذكرها، أو يسمع الغناء من الراد  بهذه الشروط، فهو على الإباحة الأصلية.
أما الوضع الحالي للمغنين و المغنيات و ما يقترن به من تكشف و اختلاط و ما ينفق فيه من جليل الأموال، و ما يكون لهؤلاء من التقدير في المجتمع و التقديم على أهل العلم و على الأساتذة و الأطباء، فلا يجادل مسلم أنه ممنوع في الإسلام.
ثم يختم الشيخ – رحمه الله - مناقشته بهذه النتيجة : و الإختلاف اليوم في أمر الغناء و الموسيقى ناشئ كما أرى عن أمرين :
أولهما : أن من يقول بالإباحة و من يذهب إلى المنع لا يتكلمان عن شيء واحد، مع أن من الواجب قبل المناظرة تحديد موضوعها. فالذين يحرِّمون يتكلمون عن الغناء و الموسيقى بوضعها الحاضر، و لا شك أنه على هذا الحال ممنوع غالباً لأنه يقترن بمحرمات و يؤدي إلى محرمات و يشغل عن واجبات و يهدر أموالاً الأمة أحوج إلى ريعها فيما هو أنفع لها و أجدى عليها منها، و فتح المدارس للعلم و إعداد الجيش للدفاع أولى من الطرب و الغناء. و الذين يبيحون يتكلمون عن الغناء و الموسيقى من حيث أنهما أصوات موزونة مطربة تسلي و لا تؤذي، و يضعون لهذه الإباحة حدوداً و يشترطون شروطاً. و من حقق  رأى هذا الإختلاف في كثير من الحالات لفظياً لا حقيقياً.
ثانيهما : إن الطريق الصحيح للإجتهاد هو أن نجمع الأدلة الثابتة و نفهمها و نتبعها فحيث انتهت بنا وقفنا، إما التحريم و إما الإباحة. و بعض الناس يقلبون الوضع، فيضعون النتيجة التي يريدونها إما التحريم المطلق و إما الإباحة، ثم يأخذون من الأدلة ما يؤدي بهم إلى هذه النتيجة. و منهم من يدع الصحيح و يأخذ ما لم يصح، و قد يفسر اللفظ على معنى و يحصره فيه مع إمكان فهم معنى غيره. اهـ
 
رحم الله الشيخ، فهو بهذا التوجه المقاصدي الذي يربط الفعل بنتائجه و مآلاته، يذكرنا بما يعلمه كل مطّلع على شؤون الثقافات و الأعراف. فـفي كل بيئة هناك نوع من الموسيقى و الغناء ترتبط عرفياً بالإنحلال الخلقي و الفساد و الدعارة. بينما هناك أنواع أخرى من الغناء ليس لها هذا المعنى و هذا الإرتباط. فلابد من التمييز البصير و المعرفة بالواقع، و بذلك يساهم الفهم المقاصدي للشريعة في الحدّ من المبالغة في التحريم و التي تؤدي إلى الحرج و العنت.
و هناك أمر آخر يتعلق بما ذكره الإمام الشاطبي عن نوع من المباح الذي يعني رفع الحرج. فبهذا التحليل الذي ذكره الشيخ الطنطاوي نستطيع أن نستنتج أن الإباحة الأصلية في الغناء و الموسيقى ليس بمعنى التخيير في الفعل أو عدم الفعل، بل يكون معنى الإباحة مما يندرج تحت قسم الممنوع بالمعنى الكلي حيث يكون حكم الدوام عليه مما يكره، أما  فعله في بعض الحالات و الأوضاع فهو على الإباحة التي تعني رفع الحرج.
 و يمكن أن نستنتج مما سبق طريقة للحكم على أنواع التسليات و الرياضات و الهوايات التي تتفتق عنها ثقافة اللهو و اللعب في العصر الحاضر. فما لم يرتبط عملياً أو عرفياً بفساد أو ضرر فحكمه الإباحة التي تعني رفع الحرج على من فعل هذه الأمور بشكل ليس فيه تضييع للأوقات أو الأموال. و الله أعلم.
 
التصفيق للخطيب
أعمال الدنيا الأصل فيها الإباحة إلا إن ورد نصٌ بتحريمها، أو كانت مقيسة على محرم بالنص لوجود علة التحريم فيها، أو كانت تدخل تحت أصل عام من أصول التحريم كالضرر بأنواعه و الغش و الخديعة و أمثال ذلك.
·      من يدعي تحريم شيء هو الذي يطالب بالدليل.
·      و قد ورد في ذم التصفيق أن صلاة بعض الكفار عند البيت كانت مكاءً و تصدية، أي تصفيراً و تصفيقاً، فمن فعله عبادة كان متشبهاً بهم و كان فعله حراماً.
·      و ورد أن قوم لوط كانوا يصفقون للحث على فعل المحرًم أو التنبيه إليه، فمن فعله لمثل ذلك كان متشبهاً بهم و كان فعله حراماً.
·      و ورد أن من رابه في صلاته شيء و أراد أن ينبه الإمام : يسبح الرجل و تصفق المرأة. فالتصفيق لهذا المقصد المشروع جائز مطلوب في الصلاة.
·      فتبين من ذلك أن التصفيق في ذاته ليس محرماً و لكنه يحرم إن جـُعل عبادة أو وسيلة إلى ارتكاب محرم. و ليس في التصفيق للخطيب شيء من ذلك.
·      أما أن نستبدل به التكبير، فالتكبير أفضل بلا شك لكنه لا يكون في كل موضع يصفق الناس فيه. و من ادعى التحريم المطلق يطالب هو بالدليل. اهـ
 
رحم الله الشيخ، فالتصفيق في هذا العصر يستعمل للتحية و التكريم و يستعمل لبيان الموافقة و الإستحسان لما يقوله المتحدثون، ولتشجيع اللاعبين و المتبارين، و كل ذلك مما لا يناسب الصياح بالتكبير أو السكوت و الصمت المحرج حيث يتشوق الناس للتعبيرعن حماسهم أو مشاعرهم. فمعرفة مواضع التحريم و معرفة ثقافة العصر و وسائله هي التي ترفع الحرج و التأثم من غير حاجة. و الله أعلم.
 
طلاق الغضبان
الطلاق في حالة الغضب. الزوج إن كان راضياً مسروراً من زوجته فلا يطلقها، لا يطلـّق إلا و هو غضبان. و لكن الناس أصناف، و الغضب درجات، فمن كان عصبي المزاج إذا غضب لم يعد يملك التحكم في إرادته و لا السيطرة على لسانه، و طلـّق و هو في هذه الحال التي يكون فيها مثل المجنون فإن طلاقه لا يقع كما لا يقع طلاق المجنون.
و من كان غضبه بارداً - و هذا أشد الغضب – يملك فيه أعصابه و يتكلم بصوت هادئ، و إن كانت النار تشتعل في داخله، و طلـّق، فإن طلاقه يقع.
و أول من عرفناه فصـّل القول في طلاق الغضبان هو شيخ الإسلام ابن تيمية و جاء تلميذه ابن قيم الجوزية فزاد قوله شرحاً و بسطاً على عادته في شرح أقوال شيخه ابن تيمية.
و في " إعلام الموقعين " لابن القيم، في مواضع كثيرة منه، كلام نفيس عن ألفاظ الطلاق و مدى دلالتها على قصد الطلاق، أي متى تكون دالة على إرادة المطلـِّق وقوع الطلاق، و متى تكون دالة على أنه لا يريده، و ذلك مستمد من أقوال ابن تيمية، و يدخل تحت هذا العنوان الحلف بالطلاق و الطلاق المعلق.
و الشيء العجيب أن ابن تيمية و ابن القيم حنبليان، و فقهاء المذهب الحنبلي لم يأخذ أكثرهم بقولهما. و ابن عابدين المعاصر للشيخ محمد بن عبد الوهاب، و هو أفقه حنفي في عصره أخذ به و صرّح في حاشيته التي هي عمدة المفتين في المذهب الحنفي بأنه أخذ ذلك من قول ابن القيم الحنبلي. و أعجب منه أنه وقع في عصر العصبية المذهبية و التقليد المحض.
و الفتوى الآن في المذهب الحنفي و العمل في المحاكم الشرعية في أكثر البلاد التي كانت تابعة للدولة العثمانية، العمل فيها من مائة و خمسين سنة بما أفتى به ابن عابدين.
ولقد توسع الحنفية فألحقوا بالغضب كل انفعال شديد يخرج الرجل عن حالته العادية و يفقده التفكير السليم و سموه طلاق المدهوش.   و دليل عدم وقوعه حديث " لا طلاق في إغلاق " ، ففي الحالات العادية يسلك العقل طرق التفكير الموصلة الغاية التي يريدها. فإن عراه انفعال شديد من خوف أو فرح، أغلقت عليه سبل التفكير فلم يعد يقدر عليها، و من ذلك حالة الغضب الشديد الذي شرحناه.
و الخلاصة أن الرجل إذا غضب غضباً شديداً لم يعد يملك فيه أعصابه و لا يستطيع التحكم بإراته و لاسيما إذا كان عصبي المزاج و طلـّق و هو في هذه الحالة فإن طلاقه لا يقع.اهـ
 
عندما يقرأ المرء هذه الفتوى يتبادر إلى ذهنه ما شكى منه الشيخ الغزالي رحمه الله من التشدد في إيقاع الطلاق و الذي يوقع الناس في الحرج و يفتح باب الفتنة بالقوانين العلمانية و خاصة في قضايا الأسرة. و يبقى ما فعله الشيخ ابن عابدين رحمه الله في الأخذ بقول من مذهب آخر تيسيراً للناس و رفعاً للحرج عنهم، مثالاً يحتذى للمشتغلين بالفتوى والتعليم الديني. و تبقى المشكلة في من يتصدر للفتوى بعقلية التشفي و العقوبة لمن أخطأ و خالف، مع الغفلة عن تحقيق مقاصد الشرع في حفظ كيان  الأسرة و إصلاح ذات البين. و الله أعلم.
 
الـنـمـص
لا بد من مقدمات نتفق عليها قبل الجواب :
أولها :إن ما ورد اللعن عليه من الأفعال يكون حراماً و من كبائر المحرمات.
ثانياً : من تتبع الكبائر وجد بأن فيها هدراً و إضاعة لواحد من المصالح الخمس الأصلية وهي حفظ الدين، و حفظ العقل، و حفظ المال، و حفظ النسل، وقبل ذلك كله حفظ الحياة.
فالكفر هو أكبر الكبائر لأن فيه إضاعة الدين، و الخمر و كل ما يخامر العقل و يعطله، و العدوان على المال بالسرقة، و ما يفسد النسل و النسب بالزنا و أمثاله، و القتل و تعطيل عضو أساسي - هذا كله – لا شك أنه من الكبائر. و قد وجدت كبائر لا تدخل تحت واحد من الخمس كعقوق الوالدين و الغيبة و النميمة و شهادة الزور و الغش و الخديعة و أمثالها، فوجب إضافة أصل سادس أرى أن نسميه ( الأمن الداخلي ) مثلاً، و كبائر يمكن أن نسميها ( الأمن الخارجي ) كموالاة العدو و العمل لمصلحته، و التجسس له على المسلمين، و الفرار من المعركة التي يراد منها إعلاء كلمة الله.
ثالثاً : وجدت بالإستقراء أن ما ورد عليه اللعن أو المنع الشديد منه و ليس فيه إضاعة لإحدى هذه المصالح، يكون النهي فيه عن حالة خاصة أو صفة خاصة.
و على هذا أقول : إن حديث لعن النامصة و المتنمصة و الواصلة و المستوصلة... إلخ  حديث صحيح، و لكن كيف نفهمه ؟
إن رواة الحديث لم يشرحوا لنا المراد من كلمة - النامصة - هل المراد منها ما يشمله معناها في لسان العرب أم هي صفة خاصة كانت معروفة عند ورود الحديث.
النمص في اللغة النتف، و في الجسم مواضع جـوّز الشرع نتف الشعر منها بل ندب إليه و حث عليه. فلا يمكن إذن أن يكون المراد لعن كل امرأة تنتف ( أي تنمص ) شيئاً من شعر جسدها، فالحديث ليس على عمومه.
قالوا : المراد منه نتف الحاجبين، و هو قول وجيه و إن لم يرد عليه دليل.
و في كتب الفقه كلها كلام حول هذا الموضوع ربما يفهم منه : أولاً : الزينة لا سيما للمتزوجة تتزين لزوجها جائزة و مطلوبة. ثانياً : ما يدخل في حدود الزينة من تنظيم الحواجب و تعديلها جائز. ثالثاً : نتف الحاجب كله أو نتفه إلا خيطاً رقيقاً منه لا يجوز.
و لعل أوجه الأقوال ما رواه ابن الجوزي عن بعض الحنابلة من أن هذا النمص إذا كان شعاراً و علامة للفاجرات من النساء حـَرُم، و إلا كان مكروهاً فقط. اهـ
و قد بين الإمام ابن عاشور في " مقاصد الشريعة الإسلامية " أن مقاصد الشريعة في أحكامها كلها هو إثبات الأحكام – من الوجوب أو الحرمة -  لأوصاف و أحوال و أفعال باعتبار ما تشتمل عليه من المعاني المنتجة صلاحاً و نفعاً أو فساداً و ضرراً. فإياك أن تتوهم أن بعض الأحكام منوط بأسماء الأشياء أو أشكالها الصورية غير المستوفاة المعاني الشرعية فتقع في أخطاء في الفقه. مثل قول بعض الفقهاء في صنف من الحيتان يسميه البعض خنزير الماء أنه يحرم لأنه خنزير. و كذلك أخطأ بعض المتقدمين في حكم وصل الشعر للمرأة ذات الزوج و تفليج أسنانها و تنميص حاجبيها فجعل لذلك من التغليظ في الحكم ما ينافي سماحة الإسلام، تمسكاً بظواهر أثر يروى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لعن فيه الواصلة و الواشمة و المتفلجة و المتنمصة. ثم قال : و أنا أجزم بأن ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك إذا كان كذلك ورد عنه إنما أراد به ما كان من ذلك شعاراً لرقة عفاف نساء معلومات.
و يبدو من النظر في كلام الشيخ الطنطاوي و الشيخ ابن عاشور توافقاً في التوجه إلى اعتبار المعاني و المقاصد و الأعراف عند النظر في النصوص، و البعد عن التفسير الحرفي الذي يعارض كليات من القواعد الشرعية. و الله أعلم.
 
   
التدخين
هناك أمور لم نؤمر بها بنص خاص، و لم نـُنه عنها بنص خاص لأنها لم تكن موجودة حين التشريع، أي حين نزول القرآن و صدور الحديث عن النبي المعصوم عليه الصلاة و السلام، و لكن فيها ضرراً أو فيها إضاعة للمال أو هي من الخبائث، هذه الأمور ممنوعة لدخولها تحت أصل من أصول المنع. فكل ما هو ضار للجسم أو للأخلاق أو للمجتمع يكون ممنوعاً، لأنه " لا ضرر و لا ضرار "، و كل ما فيه إسراف و تبذير يكون ممنوعاً، و كل ما هو من الخبائث يكون ممنوعاً، لأن الله أحل الطيبات و حـرّم الخبائث.
فما نهى عنه الشارع بالنص، أي بآية أو حديث، حرم قليله و كثيره، و حرم ما ظهر ضرره و ما لم يظهر منه الضرر.
و ما كان ممنوعاً لأحد هذه الأسباب كان المنع منه على درجات  : فإن كان الضرر كبيراً كان حراماً و إن كان خبيثاً جداً، ليس طيباً و لا حسناً، كان حراماً أو قريباً من الحرام.
نأتي الآن إلى حكم الدخان، الدخان لم يرد فيه نص لأنه لم يكن معروفاً، و إنما عرف في بلادنا سنة ألف، فالدخان ليس فيه نص خاص و لكنه يدخل تحت أصل من أصول المنع :
أولاً : لأنه ضار و ضرره محقق، اتفق على وجوده المسلمون و الكفار، و أجمع عليه الأطباء، و لكن هل يحرم على الإطلاق ؟  أي أن من وضع في فيه دخينة ( سيجارة ) و امتص دخانها هل يكون كمن شرب كأساً من الخمر ؟ الجواب : لا. هل هو مباح كالأكل و الشرب ؟ الجواب : لا. إذن الجواب : إن كان ضرره بالغاً حرم تناوله لأن كل ضار حرام.
ثانياً : وإن كان ضرره خفيفاً كان مكروهاً.
ثالثاً : و لا يكون مباحاً أبداً.
رابعاً : ثم إن فيه تبذير و إضاعة للمال، و إضاعة المال محرّمة. فلو رأيت رجلاً أخرج من جيبه ريالاً فأحرقه و وقف ينظر إليه و يستمتع بمرآه لقلت بأنه مخطئ إن لم تقل إنه مجنون. هذا أحرق ريالاً فقط، أما الذي يشتري بالريال علبة دخان فيدخنها، يحرق الريال و يحرق صدره معه.
خامساً : الله حرّم الخبائث، و لا أظن أن أحداً في الدنيا يقول بأن رائحة الدخان من الطيبات.
و الخلاصة : إن من كان الدخان يضره ضرراً كبيراً في جسمه الذي هو ملك الله لا يملكه صاحبه حرم عليه، و إن كان الضرر خفيفاً كان مكروهاً مع العلم أن قليل الضرر يجر إلى كثيرة.
و من كان مورده قليل فاقتطع من ضرورات حياته أو حياة من استرعاه الله أمرهم و كلفه الإنفاق عليهم، و اشترى بما اقتطعه دخاناً فشربه، كان مرتكباً محرماً. و من أكثر من شرب الدخان حتى صارت رائحته تؤذي جليسه أو أهله ( أي زوجته ) التي تعيش معه كان أيضاً من الممنوعات.
 
مسألة في الوصية
من المعروف أن أولاد الإبن لا يرثون مع وجود أبناء الصلب، و هذا الحكم لا خلاف فيه. أما الوصية الواجبة فعلاج فقهي استنبطوه في مصر لبعض الحالات و فيما يلي ملخص هذه القضية :
1 – كانت الوصية واجبة للوالدين و الأقربين من غير تحديد لمقدارها بحكم الآية ( 180 من سورة البقرة)، و اختلف العلماء في تعيين الأقربين، فمنهم من وسـّع الدائرة و من ضيقها.
2 – ثم نزلت آيات المواريث في سورة النساء فحددت بالنص ما يستحقه كل من الأقرباء الوارثين، فذهب أكثر العلماء إلى أنها نسخت آية الوصية.
3 – من العلماء من قال بأنها نسخت وجوب الوصية بحق الأقرباء الذين أعطوا نصيباً من الميراث، و بقي حكم الوجوب للأقرباء الذين لا يرثون. و من أشهر من قال بهذا ابن حزم.
4 – و قال غيرهم أن حكم الوصية للقريب غير الوارث الندب لا الوجوب، أي أن الجد يُسّن له أو يندب أن يوصي لأولاد ابنه الذي مات في حياته و يسمونه ( ابن المحروم ).
5 – أما مقدار هذه الوصية فقد نصت آية ( البقرة ) على أن الوصية بالمعروف، و المعروف أن يوصي لهم بمثل نصيب أبيهم لو كان حياً.
6 – فإن مات و لم يوص ؟ قال ابن حزم : يعطَون المبلغ الذي تقدره الورثة.
7 – فإن رفض الورثة إعطاءهم، فما العمل ؟ أنا لم أجد من قال بأنهم يعطـَون شيئاً. و لهذا أمضيت ساعات في نقاش هذه المسألة، ثم شرح الله صدري للقول بها لثلاثة أسباب :
الأول – إن المسلمين الأولين لقوة تمسكهم بالدين كان يكفيهم الندب إلى الشيء ليفعلوه و يعملوا به. لذلك كان المعهود عنهم أن الجد كان يوصي لحفدته الذين مات أبوهم في حياته.
و الثاني – إن للحاكم المسلم أن يأمر بالمباح ( فضلاً عن المندوب ) فيكون واجباً وجوباً مؤقتاً ( أي مدة استمرار العمل به ) لا وجوباً دائماً كالواجب بالنص، لقوله تعالى : " و أولي الأمر منكم ".
و الثالث – إذا قلنا بأن هذه الوصية صارت واجبة لأمر الحاكم المسلم بها. أمكن اعتبارها حقاً من حقوق الله في التركة تؤدى قبل توزيعها على الورثة. اهـ
 
و بعد،
 فهذه أمثلة مختارة لبعض الفتاوى في قضايا متفرقة و يظهر فيها التأصيل و الشرح للقواعد و الكليات الشرعية التي لا بد من استحضارها قبل القفز إلى تقرير الأحكام و المواقف.
رحم الله الشيخ و أجزل ثوابه، و ألهم المشتغلين بخدمة العلوم الشرعية الإقتداء بطريقته في الفهم و بمنهجه في تبسيط المسائل و ربطها بتزكية الدين للحياة.
 
 
المصدر: كتاب فتاوى الشيخ علي الطنطاوي الذي جمعت فيه فتاواه

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة