إيجاز / عبد الرحمن الكيلاني/ إن المتتبع لاجتهاد الأئمة السابقين في فروع المسائل والجزئيات، يجد استرشادهم
بالمقاصد العامة، لتوجيه الأدلة على حسبها، بحيث لا تتناقض البتة مع مقرراتها ولا
مع مقتضياتها. وهذه مجموعة من المسائل تظهر الاسترشاد بالقواعد الكلية للكشف عن
الحكم، وعدم الاكتفاء بالجزئيات والأدلة الخاصة فقط.
أولا: وردت نصوص ترشد إلى عظمة النفس الانسانية تتحقق في كل من قال لا إله إلا الله، جاء ذلك في الحديث: "أمِرتُ لأن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، فإذا قالوا عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقّها، وحسابهم على الله"43. وعلى ذلك فإن من نطق بالشهادتين تحققت عصمة دمه وماله، إلا إذا فعل ما يوجب رفعها. ونجد الفقهاء ينظرون إلى هذه النصوص من خلال كليات الشريعة ظهر هذا واضحاً في توبة الزنديق؛ هيث ذهب الحنفية44، والمالكية45 والإمام الغزالي من الشافعية46 وفي رواية عند الحنابلة47 إلا أن الزنديق الذي يظهر الإسلام ويتستر بالكفر فيتوب بعد أن يرفع أمره إلى الحاكم لا تقبل توبته ويقتل.
وكان مسند العلماء في ذلك: أن تظاهر الزنديق بالاسلام، من حيث النطق الصوري بكلمة التوحيد، قد يكون وسيلة إلى المساس بأصل حفظ الدين وهو أظهر مقاصد الشريعة وأهمها شـأناً، وفي هذا الفسـاد العظيم ما فيه، وفسّر الامـام الغزالي الحديث الوارد في تحقيق عصمة النفـس بمجرد النطق بالشـهادتين تقسيراً لا يؤدي إلى الإخلال بأصل حفظ الدين، فقال: "ووجه قتله – يعني الزنديق – أن المعلوم من الشرع أن الكافر مقتول، ونحن نكف عن قتلت لتوبته، والمعنى لتوبته تركه الدين البـاطل، واليهودي والنصراني وكل مِلّي يعتقد النطق بكلمة الشـهادة كفراً في دينه وتركاً له، فإذا أسـلم فموجب دينه أنه تارك لدينه، وموجب دين الزنديق عند شهادته أنه يستعمل دينه، فهذا وجه التأويل والنظر"48.
لقد فسر الإمام الغزالي الحديث على وجه لا يعرض الكلي إلا الإهدار أو النقض، فحمل الحديث الذي يفيد عصمة دم من يقول لا إله إلا الله، حمله على أهل الملل الذين يتركون دينهم حقيقة، وهذ1 ما لا يتحقق في الزنديق الذي يتستر بالشهادة، للاستمرار على انحرافه ودينه.
ولذلك ينبه الإمام الغزالي إلى هذا الملحظ في موضع آخر فيقول: "وإنما كلمة الشهادة تسقط القتل في اليهود والنصارى، لأنهم يعتقدون ترك دينهم بالنطق بكلمة الشهادة، والزنديق يرى التقية عين الزندقة، فهذا لو قضينا به، فحاصله استعمال مصلحة في تخصيص عموم، وذلك لا ينكره أحد"49.
ورد الإمام القرطبي على الذين يحتجون بعدم قتل الرسول صلى الله عليه وسلم للمنافقين في زمانه، رغم تحقق معنى الزندقة فيهم، فقال: "فإن الله كان حفظ أصحاب نبيه – صلى الله عليه وسلم – بكونه ثبتهم أن يفسدهم المنافقون، أو يفسدوا دينهم، فلم يكن ضرر في بقائهم بين أظهرهم، وليس كذلك اليوم، لأننا لا نأمن من الزنادقة أن يفسدوا عامتنا وجهّلنا"50.
هذا كله يدلنا على المنهج التوفيقي بين الكليات والجزئيات في التطبيق، بحيث أن الفقهاء لاحظوا أن الجزئي لا بد أن يسير دائماً في ركب الكلي لا ينقضه، أو يؤدي إلى إهداره، وا، الجزئيات لا بد أن تفسر دائماً على نحو تكون متوافقة مع الكليات.
ثانياً: يتجلى الاسترشاد بالقواعد المقصدية أيضاً عند النظر في الجزئيات، في توجيه العلماء في مسألة تضميت الصناع، حيث نجد أن عمادهم في ذلك بعض القواعد المقصدية القطعية، التي تضافرت على النهوض بها كليات الشريعة وجزئياتها.
إن القاعدة العامة: أن الأمين لا يضمن ما في يده من مال تسلمه من غيره لإصلاحه، إذا هلك أو تلف بدون تعمد منه، أو تقصير في حفظه، وعلى من ادعى تقصير الأمين أو تعديه، أن يقيم البيّنة على ذلك. ورغم ذلك أفنى كثير من علماء الصحابة بضمان الصناع، إذا ادعوا هلاك ما تسلموه من أمتعة غيرهم لاصلاحها، ما لم يقيموا البيّنة على أن ما هلك أو تلف بأيديهم، لم يكن بسبب تعمد من جانبهم أو تقصير51. ودليلهم في ذلك بينه الامام الباجي فيقول: "ما أدركت العلماء إلا وهم يضمنون الصناع، قال القاضي أبو محمد، لأن ذلك تتعلق به مصلحة، ونظر للصناع وأرباب السلع، وفي تركه ذريعة إلى إتلاف الأموال، ذلك أن بالناس ضرورة إلى الصناع، لأنه ليس كل أحد يحسن أن يخيط ثوبه، أو يقصره، أو يطرزه، أو يصبغه، فلو قلنا: القول قول الصناع في ضياع الأموال، لتسرعوا إلى دعوى ذلك، وللحق أرباب السلع ضرر لأنّهم بين أمرين: إما أن يدفعوا إليهم المتابع فلا يأمن فيهم ما ذكرنا، وإما ألا يدفعون فيضربهم. ودليلنا من جهة المعنى، أنه قبض العين في مصلحة نفسه، من غير استحقاق للأخذ بعقد متقدم، فلم يقبل قوله في تلفها كالرهن والعارية52.
إن هذا التحليل المقصدي يظهر لنا مقام القواعد المقصدية في استفادة الحكم وتوجيه الأدلة، وإن النظر العميق في التوجيه السابق سيرشدنا إلى أن تضمين الصناع يستند على عدة قواعد مقصدية وهي:
1- الموازنة بين المصلحة العامة والخاصة، إذ أن من المقرر أن الشارع يقصد إلى تقديم المصلحة العامة على الخاصة عند التعارض53.
2- النظر في المآل من حيث التفاته إلى الضرر الذي سيلحق بأرباب السلع، حيث يدّعي الصناع هلاكها من غير بيّنة أو دليل، فيؤول ذلك إلى الأموال وفي ذلك مخالفة لإحدى القواعد التشريعية المقررة.
3- مبدأ رفع الحرج، حيث إن امتناع أرباب السلع عند دفع سلعهم إلى الصناع خشية أن يدّعوا تلفها من غير بيّنة ولا إثبات، سيدفع الناس إلى عدم دفع السلع إلى الصناع، وفي هذا حرج بيّن وإضرار ظاهر بهم، وهو ما نبّه إليه الباجي بقوله: "أو لا يدفعون فيضر بهم".
هذه الأدلة التي هي في حقيقتها قواعد مقصدية يعبر كل منها عن معنى تشريعي عام، كانت حرية بأن توجه رأي الفقهاء القائلين بتضمين الصناع، وأن يلتفتوا إلى هذه القواعد المقررة، كأسس يبنون عليها اجتهادهم، ويكشفون على هداها عن أحكام الشريعة في الوقائع والمستجدات، ولا يكتفون بالأدلة الجزئية وحدها للكشف عن الحكم الشرعي.
ثالثًا: ومن هذه الاجتهادات التي يلحظ فيها مراعاة الكليات عند دراسة الجزئيات، ما نص عليه الامام العز بن عبد السلام، من أنه لو رأى الصائم في رمضان غريقاً لا يتمكن من إنقاذه إلا بالفطر فإنه يفطر وينقذه54. ويعلل ذلك فيقول: "وهذا من باب الجمع بين المصالح، لأن في النفوس حقاً لله عز وجل، وحقاً لصاحب النفس، فقدم ذلك على فوات أداء الصوم دون أصله"55. فالامام العز ينظر الى المسألة نظرة كلية يستند فيها على ما تقرره من مبادئ وأصول، تتضمن ابتناء الشريعة على أساس المصالح، وأن المصلحة تكون أكثر تأكداً وتحققاً في حال إفطار الصائم وإنقاذ الغريق، وأن المفسدة التي تنجم في حال بقاء الصائم على صيامه وتركه للغريق، أعظم من مفسدة الإفطار وفوات الصوم. وهذه النظرة الكلية ووزن الأمر بميزان الأغلب من المصلحة والمفسدة هو الذي أملى هذا الحكم الذي بيّنه العز، وهي نظرة تعتمد مقاصد الشريعة كما هو ظاهر وواضح.
رابعًا: ومن هذه الاجتهادات أيضاً ما نص عليه الامام الجويني56 والغزالي57 والشـاطبي58، من أنـه عجز بيت المال عن الوفاء بالتزاماته، وارتفعت الحاجات، وكانت الدولة بحاجة إلى تكثير الجنود لسـد الثغور وحماية الملك المتسـع في الأقطار، فإن للإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنـياء مايراه كافيًا لهم في الحال، وله أن يفرض الضرائب لتكفي حاجات الدولة وتفي بالتزاماتها.
وهو نظر كلي للمسألة راعى فيه الفقهاء مقاصد الشريعة، إذ أن الإمتناع عن فرض مثل هذه الضرائب، سيعرّض الدولة الإسلامية للخطر، ويهدد مقصد الدين والنفس والمال بالفساد والفناء، وهذا ما عبّر عنه الغزالي بقوله: "إن لم يفعل الإمام ذلك تبدد الجند وانحل النظام وبطلت الشوكة، وسقطت أمة الإسلام، وتعرّضت ديارنا لهجوم الكفار واستيلائهم، ولو ترك الأمر دربه للرماح، وهدفاً للنبال ويثور بين الخلق من التغالب والتواثب، ما تضع بها الأموال، وتعطل معها النفوس وتهتك فيها الحرم"59. إلى أن قال: "وهذا مما يعلم من كلي مقصود الشرع في حماية الدين والدنيا قبل أن نلتفت إلى الشواهد المعينة من أصول الشرع"60.
وظاهرٌ من هذا الاستدلال والتأييد للحكم، الإستناد إلى مقاصد الشريعة من حفظ الدين الذي يتم بحفظ سيادة الدولة التي تحرسه وتقوم على نشره، وحفظ النفس بحفظ الأمة التي تتعرّض بنفاذ خزائن الدولة لخطر الإصطلام61 والإجتثاث من قبل أعدائها، وحفظ المال الذي يتعرّض للإنهاب والإستلاب في حال غياب السلطة القوية القادرة على توفير الأمن وإقامته. ثم إن الإمام الغزالي يصرّح بالإستناد في ذلك إلى مقاصد الشريعة فيقول: "وهذا مما يعلم قطعاً في مقصود الشرع".
فهذه الأمثلة وغيرها كثير تكشف عن المنهج الذي كان يترسمه الأئمة المجتهدون في فقههم وإجتهادهم. وحري بالمجتهدين في عصرنا هذا، أن يترسموا ذات المنهج وألا تعزل النصوص الجزئية عن كلياتها العامة، فتفهم فهماً مبتوراً يؤدي إلى الإخلال بتلك الكليات.
هذه القواعد لا تقبل النسخ ولا النقض:
وكما أن هذه القواعد لا تنقض بآحاد الجزئيات، فكذلك هي من المكانة والقوة والرسوخ والإحكام بحيث لا يمكن أن يرد عليها نسخ.
يقول الإمام الشاطبي في معرض بيانه لمكانة القواعد المتعلقة بالضروريات والحاجيات والتحسينات: (القواعد الكلية من الضروريات والحاجيات والتحسينات، لم يقع فيها نسخ، وإذا وقع النسخ في أمور جزئية، بدليل الإستقراء، فإن كان ما يعود بالحفظ على الأمور الخمسة ثابت، وأن فرض نسخ في بعض جزئياتها، فذلك لا يكون الا بوجه آخر من الحفظ)62.
والأمام الشاطبي وإن كان قد خص بالذكر قواعد الضروريات والحاجيات والتحسينات، مبيّناً أنها غير قابلة للنسخ، فهذا لا يعني أن عدم النسخ متعلق فقط بخصوص هذه المراتب الثلاث، وإنما يشمل أيضاً كل كليات الشريعة التي تؤكد حفظ هذه المراتب وتعمقها في الوجود والواقع. وهذا ما ألح إليه بقوله السابق: (إن كل ما يعمد بالحفظ على الأمر الخمسة ثابت). كذلك يقول في موقع آخر: (النسخ لايكون في الكليات وقوعاً، وإن أمكن عقلاً)63، وعلى ذلك فإن جميع كليات الشريعة لا تقبل النسخ. ولما كانت القواعد المقصدية هي من ضمن هذه الكليات، فهي يشملها هذا الحكم كذلك.
وبناءً عليه فإنه لا يتصور شرعاً أن يقع النسخ في أي قاعدة من القواعد المقصدية مثل: (المصلحة إذا كانت هي الغالبة عن مناظرتها بالنفسدة في حكم الاعتياد، فهي المقصود شرعاً، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد)64، أو (قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده من العمل موافقاً لقصده في التسريع)65.أو (من مقصود الشارع في الأعمال دوام المكلف عليها).66
ومرد إحكام هذه الكليات – ومن ضمنها قواعد المقاصد كما بينت – أنها تتصل بمعانٍ أبدية لا يمكن أن تتعرض للنسخ أو الإلغاء، من مثل: إقامة العدل، والأمر بالبر، والنهي عن الفحشاء والمنكر، ودفع الظلم عن الناس، والحفاظ على النفس الإنسانية من الإزهاق وصون أعراض الناس وأموالهم وعقولهم من الخطر أو التفريط أو العدوان، إلى غير ذلك من الكليات الشرعية (التي تتصل بمعانٍ أبدية دلّت تجارب الأمم على ضرورتها الحيوية لكل جيل، والنزول عند مقتضياتها لأنها مقومات الحياة الإنسانية الفاضلة)67.
لذلك يقول الإمام الشاطبي منبّهاً إلى منشأ إحكام هذه القواعد وعدم إمكانية ورود النسخ عليها: (أجمعت الأمة، بل سائر الملل على حفظ هذه الأصول الخمسة)68، (وهكذا يقتضي في الحاجيات والتحسينات)69.
ولا شك أن إجماع الأمة بل الأمم على وجوب مراعاة هذه الأصول المقصدية، راجع إلى ضرورتها في حياتها، بحيث لا تستقيم الحياة الإنسانية إلا بها؛ ولهذا تُعد في التشريع الإسلامي من النظام التشرعي العام الذي لا تجوز مخالفته بأي حالٍ من الأحوال أو الإتفاق على مخالفته.
تميز القاعدة المقصدية:
هذا وللقاعدة المقصدية تميز واستقلال عن غيرها من المصطلحات القريبة من مثل: القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية، يرشد إلى ذلك المقارنة بين طبيعة القاعدة المقصدية من جهة، وطبيعة القاعدة الأصولية والفقهية من جهة أخرى.
أقسام القاعدة المقصدية:
مما يزيد القاعدة المقصدية جلاءً ووضوحاً: النظر في الأسس والاعتبارات التي يمكن أن تشـكل معالم أساسية لتقسيم القواعد المقصدية ضمن فئات مختلفة ومنظومات متعددة ومتنوعة، ويمكن أن أسجل أبرز هذه المعالم على أنه يمكن الاجتهاد في إظهار معالم أخرى تكون أساساً في التقسيم والتوزيع:
أولاً: الموضوع الذي تضمنته القاعدة المقصدية وتعبر عنه، فالقاعدة تختلف باختلاف موضوعها المباشر، الذي سبقت لبيانه وتوضيحه.
ثانياً: عموم القاعدة وخصوصها، فالقاعدة ليست كلها على وزن واحد من حيث العموم والخصوص، حيث نجد بعضها عاماً بحيث يمكن أن يستوعب غيره من القواعد أو تتفرع عنه، وبعضها الآخر أخص بحيث يتفرع عن قاعدة أوسع أو يندرج فيها.
ثالثاً: صاحب القصد، فإن القواعد المقصدية منها ما جاء ليحدد قصد الشارع من التشريع، ومنها ما سبق لوجه قصد المكلف، ليكون متوافقاً مع ما قصد الشارع، فصاحب القصد وفق ما تدل عليه القواعد، إما أن يكون الشارع، وإمّا أن يكون المكلف.
وأبين ذلك باختصار فيما يلي:
أولا: من حيث المضمون:
القواعد المقاصدية وإن كانت تتفق جميعها من حيث الموضوع العام الذي ينتظمها جميعها، والمتمثل في الغاية التشريعية التي توجهت إرادة الشارع لإقامتها عن طريق أحكامه، والمعاني العامة التي استهدفها الشارع من تشريعه، أقول: هذه القواعد وإن كانت متفقة من حيث الموضوع العام، فهي مختلفة من حيث الموضوع المباشر الذي تضمنته كل الك القواعد.
ومن خلال دراستي لتك القواعد، استطعت – بعد النظر والتأمل – أن أحدد المواضيع التالية، كموضوع مباشرة تعبر عنها القواعد المقاصدية.
1) قواعد تتعلق بموضوع المصلحة والمفسدة:
من حيث إن هذه القواعد تتحدد في تناولها لموضوع المصلحة والمفسدة، إلا أنها تختلف في كيفية تناولها لهذا الموضوع، فبعضها يبين الأساس العام الذي قامت عليه الشريعة كلها في جزئياتها وكلياتها، المتمثل في جلب المصالح ودرء النفاسد، ومن هذه القواعد على سبيل المثال لا الحصر:
(وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً) .
(الأمر في المصالح مطرد مطلقاً في كليات الشريعة وجزئياتها) .
(التكليف كله إما لدء المفاسد أو لجلب المصالح أو لهما معاً) .
(الأسباب الممنوعة أسباب للمفاسد لا للمصالح، والأسباب المشروعة أسباب للمصالح لا للمفاسد) .
(المفهوم من وضع الشارع، أن الطاعة أو المعصية تعظم بحسب عظم المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها) .
وهناك قواعد تكشف عن وجه العلاقة بين مراتب المصلحة الثلاث:
(كل حاجي وتحسيني إنما هو خادم للأصل الضروري ومؤنس بع، ومحسن لصورته الخاصة) .
(إن مجموعة الحاجيات والتحسينيات، ينتهض أن يكون كل واحد منهما كفرد من أفراد الضروريات) .
إلى غيرها من القواعد الأخرى، التي تظهر صلة كل واحد من المراتب الثلاث بغيرها من المراتب الأخرى.
وهناك قواعد تظهر دور المجتهد في الالتفات إلى المعنى المصلحي الذي سبق الحكم من أجله، وإلى وظيفته في تفهم معاني الأحكام وحكمها، مثل:
(لا بد من الالتفات إلى معاني الأمر لا إلى مجرده) .
(العمل بالظواهر على تتبع وتغال بعيد عن مقصود الشارع، كما أن إهمالها إسراف أيضاً) .
فهذه القواعد تتعلق بدور المجتهد في إدراك معاني الأحكام وغاياتها المصلحية، فجميع هذه القواعد تتناول موضوع المصلحة، وإن اختلفت كيفية تناولها لهذا الموضوع.
2) قواعد تتناول موضوع رفع الحرج:
وهناك قواعد مقاصدية تدور في فلك رفع الحرج زما ينبثق عنه من قضايا وتفريعات، والكشف عن معايير المشقة التي التسهيل والتخفيف والتيسير، والربط بين مبدأ رفع الحرج وبين قصود المكلفين، نجد هذه المعالم واضحة حين ننعم النظر في القواعد التالية:
(الشارع لم يقصد التكليف بالشاق والاعنات فيه).
(الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها، على الطريق الوسط الأعدل الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال) .
فهذه القواعد وغيرها كثير، تبين أن قصد الشارع لا يتوجه إلى خطاب المكلفين بما لا قدرة لهم عليه، أو ما لا يملكون القيام به إلا بمشقة بالغة غير معتادة.
ثم يبين الإمام الشاطبي من خلال القواعد أيضاً، ضوابط المشقة وحدودها التي تستوجب التيسير، ومن ذلك مثلاً: (إذا كانت المشقة خارجة عن المعتاد، بحيث يحصل للمكلف فيها فساد ديني أو دنيوي، فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة) .
فالإمام الشاطبي في هذه القاعدة، يسبن المشقة التي تُعد شرعاً، وهي التي فيها خروج عن المعتاد من الأعمال، بحيث يشوش على النفوس تصرفها، ويقلقها بما فيه من تلك المشقة.
على ذلك فإن المشاق المعتادة التي تكون ملازمة للعمل، بحيث لا تنفك عنه، وأضحت بمثابة الجزء المصاحب له، لا تُعد مشقة تستلزم التخفيف والتيسير.
ويؤكد الإمام الشاطبي هذا المعنى ويوثقه، حيث يأتي بقاعدة من هذا القبيل ينص فيها: (مشقة مخالفة الهوى، ايست من المشاق المعتبرة،ولا رخصة فيها البتة) .
وعدم اعتبار مشقة مخالفة الهوى، راجع إلى أنه لا يقوم التكليف أصلاً إلا بمخالفة أهواء النفوس، فإذا اعتبرت هذه الأهواء في التخفيف، كان ذلك داعياً إلى إسقاط التكيف عنه.
3) قواعد تتعلق بمآلات الأفعال ومقاصد المكلفين:
كذلك فإنني وجدت بعد التتبع والدراسة، أن بعض القواعد ينتظمها موضوع مقاصد المكلفين ومآلات تصرفاتهم، والقواعد في هذا الموضوع كثيرة:
منها قواعد تتعلق بوجوب النظر إلى المآل وضرورة اعتباره، نظراً لمراعاة الشارع له، من ذلك:
(النظر في المآل معتبر مقصوده شرعاً) .
(وينبعي على المجتهدين أن ينظروا إلى مسببات الأحكام وأسباباها لما يترتب على ذلك من الأحكام الشرعية) .
وقواعد أخرى تتعلق بتوجيه مقاصد المكلفين، بحيث تكون متوافقة مع قصد الشارع مثل:
(قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل، موافقاً لقصده في التشريع، وإلا يقصد خلاف ما قصد) .
(المقاصد معتبرة في التصرفات) .
(إذا كان الالتفات إلى المسبب من شأنه التفويه للسبب والتكملة له، والتحرض على المبالغة في إكماله، فيجب الالتفات إليه).
ويندرج تحت هذه القواعد أيضاً، القواعد التي تظهر أثر مناقضة المكلفين في تصرفاتهم لقصد الشارع، سواء أكان منشأ تلك المناقضة قصد المكلف، بحيث توجهت إرادة المكلف إلى نقيض ما قصد الشارع، أم كان منشؤها – أي المنقضة – مآل التصرف، من غير سبق قصد لتلك المناقضة.
ومن هذه القواعد أيضاً:
(كل من ابتغى في التكاليف الشرعية غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة).
(إن كان فعل الشرط أو تركه قصداً لاسقاط حكم الاقتضاء في السبب، ألا يترتب عليه أثره، فهذا عمل غير صحيح، وسعي باطل) .
(من سلك إلى مصلحة غير طريقها المشروع فهو ساعٍ في ضد تلك المصلحة) .
(كل فعل مشروع يصبح غير مشروع إذا أدى إلى مآل ممنوع، قصد المكلف ذاك المآل أم لم يقصد) .
هذه هي الموضوعات الأساسية التي تتناولها القواعد المقاصدية بالبيان والتفصيل، وفق ما ظهر لي بعد البحث والنظر.
على أنه تنبغي الإشارة، إلى أن هذه المواضيع وإن كان كل منها قائماً بذاته يشمل قواعده ومباحثه المستقلة، فإن أي موضوع من هذه الموضوعات ليس مبتوراً على غيره من الموضوعات الأخرى، التي سيقت القواعد المقاصدية لتفصيلها وتأصيلها، فموضوع المصلحة والمفسدة من الشمول والسعة، بحيث يمكن أن يندرج تحته موضوعا مآلات الأفعال ورفع الحرج، إذ إن رفع الحرج ما كان إلا تحقيقاً لمصالح العباد، ودفعاً للمفسدة عنهم.
وكذلك فإن موضوعات مآلات الأفعال، وما يندرج تحته من قواعد بمقاصد المكلفين، تبقى الصلة بموضوع المصلحة والمفسدة، ذلك بأن القواعد التي توجب النظر إلى المآل، إنما توجب مراعاة المصالح التي قصد الشارع إقامتها من الحكم، فإذا وجد المجتهد أن الحكم الأصلي ما عاد يحقق في مآله مصلحته المقصودة، نظراً لما احتف به من قرائن ووقائع، وجب أن يراعى ذاك المآل، حفاظاً على المصلحة المقصودة من الحكم.
كذلك فإن توجيه مقاصد المكلفين، لتكون متوافقة مع قصد الشارع، هو موضوع وثيق الصلة بموضوع المصلحة، إذ إن هذا التوجيه لمقاصد المكلفين، ما كان إلا حفاظاً على مصلحة الحكم من أن تنقض أن تهدر وهذه الصلة عبرت عنها القواعد المقاصدية نفسها، مثل:
(مخافة قصد الشارع، هدم لأساس المشروعات القائمة على إقامة المصالح ودرء المفاسد) .
وكما يرتبط كل من موضوعي رفع الحرج ومآلات الأفعال بموضوع المصلحة، فإن كلا من موضوع رفع الحرج، ومآلات الأفعال يتصل بالآخر أيضاً. ولقد عكست القواعد المقاصدية هذه الصلة، من ذلك مثلاً، القاعدة التي ساقها الشاطبي في معرض بيانه للمشقه المعتبرة التي تستوجب التيسير حيث قال:
(إذا كانت المشقة خارجة عن المعتاد، بحيث يحصل بها للمكلف فساد ديني أو دنيوي فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة) .
حيث حكم الشاطبي على المشقة بأنها مشقة، من خلال مآلها ونتيجتها، وهو ما يلحق بسببها من فساد ديني أو دنيوي.
ومن هذه القواعد أيضاً (ليس للمكلف أن يقصد المشقة نظراً إلى عظم أجرها، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته، من حيث هو عمل).
والقاعدة: (إذا فعل المكلف المانع قصداً لاسقاط حكم السبب المقتضي أن لا يترتب عليه ما اقتضاه، فهو عمل غير صالح) .
فهذه القواعد تفريع على الأصل العام الذي يشترط التوافق والتآلف بين قصد المكلف من التصرف مع قصد الشارع من التشريع.
وهكذا نجد أن العموم في القواعد المقاصدية ليس على وزان واحد، بل هو عمومان: (عموم أعم، وعموم أخص ينبثق عن الأعم، والعموم الأخص، إما أن يكون ضابطاً للأصل الكلي، أو مفصلاً وموضحاً لشرطه، أو موثقاً لأصله، أو مبيناً لمآله وأقسامه, وهكذا).
ثانيا: القاعدة المقصدية من حيث صاحب القصد:
والمحمور الثالث الذي يُعد أساساً في التفريق بين القواعد المقاصدية، وهو صاحب القصد، ذلك أنه بالنظر في قواعد المقاصد، نجد أن بعض القواعد جاءت تبياناً لقصد الشارع من التشريع، وبعضها الآخر جاء توجيهاً وإرشاداً للمكلف في قصده.
ولقد أشار الإمام الشاطبي في مقدمة بيانه لمقاصد الشريعة، إلى أن المقاصد تنقسم إلى قسمين:
أحدهما يرجع إلى قصد الشارع.
والآخر يرجع إلى قصد المكلف .
فإذا كانت المقاصد تنقسم إلى هذين القسمين، وفق بيان الإمام الشاطبي، فإن من اللازم أن تكون القواعد التي تضبط هذه المقاصد، جارية على وفق هذا النسق، من حيث النظر إليها وفق هذين الاعتبارين، قصد الشراع أو قصد المكلف.
ويظهر هذا بيناً في القواعد المقاصدية، ففي معرض بيان قصد الشارع جاء كثير من القواعد مثل: (المقاصد العامة للتعبد هي الانقياد لأوامر الله تعالى، وإفراده بالخضوع والتعظيم لجلاله والتوجه إليه) .
(اجتناب النواهي، آكد وأباغ في القصد الشرعي من فعل الأوامر، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح) .
(وضعت الشريعة على أن تكون أهواء العباد تابعة لمقصود الشارع فيها، وقد وسّع الله على العباد في شهواتهم وتنعماتهم بما بكفيهم) .
(من مقصود الشارع في الأعمال دوام المكلف عليها) .
(النظر في المآل معتبر مقصود شرعاً) .
(لا نزاع في أن الشارع قاصد إلى التكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما، ولكنه لا يقصد نفس المشقة، بل يقصد ما في ذلك من المصالح العائدة على المكلف) .
فهذه القاعدة وإن كانت من قواعد موضوع رفع الحرج، إلا أنها متصلة بالقواعد التي سيقت لتوجيه قصود المكلفين لتكون منسجمة مع قصد الشارع، متوافقة مع إرادته.
وهكذا يجد الباحث أن الاتصال الوثيق بين هذه الموضوعات الثلاثة، يحتم التلاقي بين قواعد هاتيك الموضوعات، ويؤكد الصلة بينها.
ثالثا: القاعدة المقصدية من حيث الكلية والعموم:
القواعد المقصدية، وإن تحقق في جميعها وصف العموم والكلية، إلا أن عمومها وكليتها ليسا على وزن واحد، فهناك قواعد هي من الكلية والعموم، بحث يمكن اعتبارها أصولاً لقواعد مقصدية أخرى تتفرع عليها، وتنبثق عنها.
وهناك قواعد أخرى، رغم كليتها وعمومها، نجدها منضوية تحت لواء قاعدة أخرى أكثر عموماً واتساعاً كلية وبيان ذلك وتفصيله يظهر فيما يلي:
فالقاعدة المقصدية (مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع أن تكون مطلقة عامة، لا تختص في باب دون باب، ولا بمحل دون محل) ، والقاعدة (الأمر في المصالح مطرد مطلقاً في كليات الشريعة وجزئياتها) ، تبينان ابتناء الشريعة على أساس جلب المصالح ودرء المفاسد في الكليات والجزئيات، وتعتبر أصولاً لغيرها من القواعد الأخرى التي تنبثق عن هذه الحقيقة المستقرة، ومن هذه القواعد المتفرعة عنها، القواعد التي سيقت لبيان حد المصالح يَعُدها الشارع من مثل: (وضع الشريعة وإن كان لمصالح العباد، فإنما هو حسب أمر الشارع، وعلى الحد الذي حده، ولا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم).
كذلك فإن القواعد المتعلقة بالضروريات والحاجيات والتحسينات تُعَد أصولاً لغيرها من القواعد الأخرى، إذ إن هذه المراتب الثلاث، هي من الشمول والاتساع، بحيث تصلح لاستعاب غيرها من القواعد المقاصدية.
ولقد أشار الشاطبي إلى ذلك بقوله: "إذ ليس فوق هذه الكليات كلي تنتهي إليه، بل هي أصول الشريعة" .
كذلك الأمر عندما نلتفت إلى القواعد المقاصدية التي تتعلق بقواعد المكلفين ومآلات تصرفاتهم، حيث نجد عند التحقيق والتدقيق، أن هناك قواعد أكثر كلية وعموماً من غيرها من القواعد مثل: (إنما الأعمال بالنيات، والمقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات) .
فهذه القاعدة التي تبين أن للقصد الذي تتوجه إليه إرادة المكلف اعتباراً وأثراً في الاعتداد بالتصرف الصادر عن المكلف، تُعَد أصلاً لغيرها من القواعد الأخرى التي تبين كيفية توجيه قصد المكلف حيث يكون صحيحاً معتبراً كم مثل: (قصد الشارع من المكلف، أن يكون قصده من العمل، موافقاً لقصده من التشريع، وإلا يقصد خلاف ما قصد) .
كما أن هذه القاعدة تُعَد أصلاً لغيرها من القواعد الأخرى مثل: (إن كان فعل الشرط، أو تركه، قصداً لإسقاط حكم الاقتضاء في السبب أن لا يترتب عليه أثره فهذا عمل غير صحيح وسعي باطل) .
فهذه القواعد كلها كما هو ظاهر منها، متعلقة ببيان قصد الشراع وعاياته، حتى يتبنها المكلف، فلا يأتي بما يناقضها، أو يكافحها صراحة.
ومن القواعد التي جاءت توجيهاً للمكلف في قصده وباعثه:
(من سلك إلى مصلحة غير طريقها المشروع، فهو ساعٍ في ضد تلك المصلحة) .
(القصد إلى المشقة باطل، لأنه مخالف لقصد الشارع، ولأن الله لم يجعل تعذيب النفوس سبباً للتقرب إليه، ولا لنيل ما عنده) .
(ليس للمكلف أن يقصد المشقة نظراً إلى عظم أجرها، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته، من حيث هو عمل) .
فكل هذه القواعد جاءت توجيهاً لقصد المكلف وإصلاحاً لباعثه، حتى لا يؤثر فساد القصد على صحة التصرف، وحتى يكون موافقاً لإرادة الشارع في الظاهر والباطن.
وبذلك فإننا نلحظ البعد الواقعي لهذه القواعد، فحتى لا تبقى القواعد المبينة لقصد الشارع محلقة في سماء التنظير البعيد عن الواقع، ربطت بجانبها العملي عن طريق القواعد التي توجه قصد المكلف، إذ أن المحافظة على مقاصد التشريع لا تتأتى إلا بما أشار إليه الإمام الشاطبي من آليات تحقق ذلك، وتتم هذه المحافظة بأن يتوجه المكلف في قصده إلى تحقيق قصد الشارع في كل حكم عملي ليتم التطابق بينهما بأقصى جهد مستطاع، فلا ينبو قصد المكلف عن قصد الشارع.
وفي هذا تفعيل لمقاصد الشريعة، من حيث إنزالها من أفقها النظري إلى جانبها العملي في الواقع والحياة، عن طريف أفعال المكلفين ومقاصدهم، ليكون المكلف بعد تحقيق هذا التوافق عبداً لله اختياراً كما هو عبد له اضطراراً.
النتائج والتوصيات
بعد أن انتهيت في المطالب السابقة من بيان حقيقة القاعدة المقصدية، وأهميتها، ومكانتها من التشريع، والفرق بينها وبين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية، فإنني أضع أبرز النتائج والتوصيات:
أولا: للقواعد المقصدية تميز واستقلال عن كلٍ من القواعد الأصولية والفقهية، من حيث الحقيقة والحجية والمضمون. وهذا يعني أننا أمام شكل جديد وضرب فريد من أشكال البحث في علم القواعد يختص بتلك التي تبحث في المعاني التشريعية العامة.
ثانياً: إن منشأ الزلل في بعض الاجتهادات المعاصرة يعود إلى عدم مراعاة الكليات التشريعية عند دراسة النصوص، والاكتفاء بتحكيم القواعد الأصولية وحدها، دون أن يقترن بذلك النظر إلى المعاني التشريعية، التي تُعَد قطب رحى الشريعة، إذ لا يصح دراسة الجزئيات بمنأى عن الكليات التي توجه الجزئيات وتضبطها.
ثالثاً: اعتمد السابقون من العلماء كثيراً من القواعد المقصدية في سبيل الحكم الشرعي، واعتبروا تلك القواعد بمثابة أدلة مستقلة ممكن أن يستند عليها لتأييد الحكم.
رابعأ: القواعد المقصدية وإن كانت مختلفة عن القواعد الفقهية والأصولية حقيقةً ومضموناً، فإنها تلتقى معها في غاية واحدة وهي اسعاف المجتهد بالقواعد العامة التي يتحتم مراعاتها والاحاطة بها عند إرادة الكشف عن الحكم الشرعي في القضايا المختلفة.
خامساً: أدعو إلى مزيد من البحث والدراسة لموضوع قواعد المقاصد، حتى يغدو مبحثاً خاصاً من مباحث علم مقاصد الشريعة الإسلامية، يجري البحث فيه على نسق البحث في القواعد الفقهية والقواعد الأصولية.
وهذا يتطلب دراسة الكتب المقاصدية دراسة متأنية ومعمقة ككتاب (الفروق للقرافي) وقاعدة الأحكام للعز بن عبد السلام، وكتب الامامين المجددين ابن تيمية واين القيم، وقبل ذلك ما قدمه الإمام الجويني والغزالي في كتبهما المختلفة، بغية اقتناص القواعد المقاصدية المبثوثة في ثنايا تلك الكتب القيمة.
سادساً: أوصي بدراسة قواعد المقاصد دراسة تحليلية تأصيلية بحيث يعم بيان حقيقة كل قاعدة على حدة, وإظهار أدلتها التي تستند إليها من موارد الشريعة المختلفة, والكشف عمّا ينبثق عن تلك القاعدة من قواعد وأصول, إضافة إلى ضرورة تفعيل تلك القواعد بالصور التطبيقية والوقائع والمسائل العملية, حتى يظهر أن هذه القواعد ليست قواعد محلّقة في سماء التنظير, وإنما هي قواعد ذات بعد عملي وفقه واقعي.
سابعاً: أوصي الباحثين والدارسين المعاصرين في علوم الشريعة بضرورة تقديم الدراسات والأبحاث التي تميل إلى ضبط علم المقاصد من خلال قواعد محددة, تقدم لوناً جديداً من الدراسة في علم القواعد وعلم المقاصد, وأذكر بعبارة الإمام الزركشي – رحمه الله – (فإن ضبط الأمور المنتشرة المتعددة في القوانين المتحدة أوعى لحفظها وأدعى لضبطها).
أولا: وردت نصوص ترشد إلى عظمة النفس الانسانية تتحقق في كل من قال لا إله إلا الله، جاء ذلك في الحديث: "أمِرتُ لأن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، فإذا قالوا عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقّها، وحسابهم على الله"43. وعلى ذلك فإن من نطق بالشهادتين تحققت عصمة دمه وماله، إلا إذا فعل ما يوجب رفعها. ونجد الفقهاء ينظرون إلى هذه النصوص من خلال كليات الشريعة ظهر هذا واضحاً في توبة الزنديق؛ هيث ذهب الحنفية44، والمالكية45 والإمام الغزالي من الشافعية46 وفي رواية عند الحنابلة47 إلا أن الزنديق الذي يظهر الإسلام ويتستر بالكفر فيتوب بعد أن يرفع أمره إلى الحاكم لا تقبل توبته ويقتل.
وكان مسند العلماء في ذلك: أن تظاهر الزنديق بالاسلام، من حيث النطق الصوري بكلمة التوحيد، قد يكون وسيلة إلى المساس بأصل حفظ الدين وهو أظهر مقاصد الشريعة وأهمها شـأناً، وفي هذا الفسـاد العظيم ما فيه، وفسّر الامـام الغزالي الحديث الوارد في تحقيق عصمة النفـس بمجرد النطق بالشـهادتين تقسيراً لا يؤدي إلى الإخلال بأصل حفظ الدين، فقال: "ووجه قتله – يعني الزنديق – أن المعلوم من الشرع أن الكافر مقتول، ونحن نكف عن قتلت لتوبته، والمعنى لتوبته تركه الدين البـاطل، واليهودي والنصراني وكل مِلّي يعتقد النطق بكلمة الشـهادة كفراً في دينه وتركاً له، فإذا أسـلم فموجب دينه أنه تارك لدينه، وموجب دين الزنديق عند شهادته أنه يستعمل دينه، فهذا وجه التأويل والنظر"48.
لقد فسر الإمام الغزالي الحديث على وجه لا يعرض الكلي إلا الإهدار أو النقض، فحمل الحديث الذي يفيد عصمة دم من يقول لا إله إلا الله، حمله على أهل الملل الذين يتركون دينهم حقيقة، وهذ1 ما لا يتحقق في الزنديق الذي يتستر بالشهادة، للاستمرار على انحرافه ودينه.
ولذلك ينبه الإمام الغزالي إلى هذا الملحظ في موضع آخر فيقول: "وإنما كلمة الشهادة تسقط القتل في اليهود والنصارى، لأنهم يعتقدون ترك دينهم بالنطق بكلمة الشهادة، والزنديق يرى التقية عين الزندقة، فهذا لو قضينا به، فحاصله استعمال مصلحة في تخصيص عموم، وذلك لا ينكره أحد"49.
ورد الإمام القرطبي على الذين يحتجون بعدم قتل الرسول صلى الله عليه وسلم للمنافقين في زمانه، رغم تحقق معنى الزندقة فيهم، فقال: "فإن الله كان حفظ أصحاب نبيه – صلى الله عليه وسلم – بكونه ثبتهم أن يفسدهم المنافقون، أو يفسدوا دينهم، فلم يكن ضرر في بقائهم بين أظهرهم، وليس كذلك اليوم، لأننا لا نأمن من الزنادقة أن يفسدوا عامتنا وجهّلنا"50.
هذا كله يدلنا على المنهج التوفيقي بين الكليات والجزئيات في التطبيق، بحيث أن الفقهاء لاحظوا أن الجزئي لا بد أن يسير دائماً في ركب الكلي لا ينقضه، أو يؤدي إلى إهداره، وا، الجزئيات لا بد أن تفسر دائماً على نحو تكون متوافقة مع الكليات.
ثانياً: يتجلى الاسترشاد بالقواعد المقصدية أيضاً عند النظر في الجزئيات، في توجيه العلماء في مسألة تضميت الصناع، حيث نجد أن عمادهم في ذلك بعض القواعد المقصدية القطعية، التي تضافرت على النهوض بها كليات الشريعة وجزئياتها.
إن القاعدة العامة: أن الأمين لا يضمن ما في يده من مال تسلمه من غيره لإصلاحه، إذا هلك أو تلف بدون تعمد منه، أو تقصير في حفظه، وعلى من ادعى تقصير الأمين أو تعديه، أن يقيم البيّنة على ذلك. ورغم ذلك أفنى كثير من علماء الصحابة بضمان الصناع، إذا ادعوا هلاك ما تسلموه من أمتعة غيرهم لاصلاحها، ما لم يقيموا البيّنة على أن ما هلك أو تلف بأيديهم، لم يكن بسبب تعمد من جانبهم أو تقصير51. ودليلهم في ذلك بينه الامام الباجي فيقول: "ما أدركت العلماء إلا وهم يضمنون الصناع، قال القاضي أبو محمد، لأن ذلك تتعلق به مصلحة، ونظر للصناع وأرباب السلع، وفي تركه ذريعة إلى إتلاف الأموال، ذلك أن بالناس ضرورة إلى الصناع، لأنه ليس كل أحد يحسن أن يخيط ثوبه، أو يقصره، أو يطرزه، أو يصبغه، فلو قلنا: القول قول الصناع في ضياع الأموال، لتسرعوا إلى دعوى ذلك، وللحق أرباب السلع ضرر لأنّهم بين أمرين: إما أن يدفعوا إليهم المتابع فلا يأمن فيهم ما ذكرنا، وإما ألا يدفعون فيضربهم. ودليلنا من جهة المعنى، أنه قبض العين في مصلحة نفسه، من غير استحقاق للأخذ بعقد متقدم، فلم يقبل قوله في تلفها كالرهن والعارية52.
إن هذا التحليل المقصدي يظهر لنا مقام القواعد المقصدية في استفادة الحكم وتوجيه الأدلة، وإن النظر العميق في التوجيه السابق سيرشدنا إلى أن تضمين الصناع يستند على عدة قواعد مقصدية وهي:
1- الموازنة بين المصلحة العامة والخاصة، إذ أن من المقرر أن الشارع يقصد إلى تقديم المصلحة العامة على الخاصة عند التعارض53.
2- النظر في المآل من حيث التفاته إلى الضرر الذي سيلحق بأرباب السلع، حيث يدّعي الصناع هلاكها من غير بيّنة أو دليل، فيؤول ذلك إلى الأموال وفي ذلك مخالفة لإحدى القواعد التشريعية المقررة.
3- مبدأ رفع الحرج، حيث إن امتناع أرباب السلع عند دفع سلعهم إلى الصناع خشية أن يدّعوا تلفها من غير بيّنة ولا إثبات، سيدفع الناس إلى عدم دفع السلع إلى الصناع، وفي هذا حرج بيّن وإضرار ظاهر بهم، وهو ما نبّه إليه الباجي بقوله: "أو لا يدفعون فيضر بهم".
هذه الأدلة التي هي في حقيقتها قواعد مقصدية يعبر كل منها عن معنى تشريعي عام، كانت حرية بأن توجه رأي الفقهاء القائلين بتضمين الصناع، وأن يلتفتوا إلى هذه القواعد المقررة، كأسس يبنون عليها اجتهادهم، ويكشفون على هداها عن أحكام الشريعة في الوقائع والمستجدات، ولا يكتفون بالأدلة الجزئية وحدها للكشف عن الحكم الشرعي.
ثالثًا: ومن هذه الاجتهادات التي يلحظ فيها مراعاة الكليات عند دراسة الجزئيات، ما نص عليه الامام العز بن عبد السلام، من أنه لو رأى الصائم في رمضان غريقاً لا يتمكن من إنقاذه إلا بالفطر فإنه يفطر وينقذه54. ويعلل ذلك فيقول: "وهذا من باب الجمع بين المصالح، لأن في النفوس حقاً لله عز وجل، وحقاً لصاحب النفس، فقدم ذلك على فوات أداء الصوم دون أصله"55. فالامام العز ينظر الى المسألة نظرة كلية يستند فيها على ما تقرره من مبادئ وأصول، تتضمن ابتناء الشريعة على أساس المصالح، وأن المصلحة تكون أكثر تأكداً وتحققاً في حال إفطار الصائم وإنقاذ الغريق، وأن المفسدة التي تنجم في حال بقاء الصائم على صيامه وتركه للغريق، أعظم من مفسدة الإفطار وفوات الصوم. وهذه النظرة الكلية ووزن الأمر بميزان الأغلب من المصلحة والمفسدة هو الذي أملى هذا الحكم الذي بيّنه العز، وهي نظرة تعتمد مقاصد الشريعة كما هو ظاهر وواضح.
رابعًا: ومن هذه الاجتهادات أيضاً ما نص عليه الامام الجويني56 والغزالي57 والشـاطبي58، من أنـه عجز بيت المال عن الوفاء بالتزاماته، وارتفعت الحاجات، وكانت الدولة بحاجة إلى تكثير الجنود لسـد الثغور وحماية الملك المتسـع في الأقطار، فإن للإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنـياء مايراه كافيًا لهم في الحال، وله أن يفرض الضرائب لتكفي حاجات الدولة وتفي بالتزاماتها.
وهو نظر كلي للمسألة راعى فيه الفقهاء مقاصد الشريعة، إذ أن الإمتناع عن فرض مثل هذه الضرائب، سيعرّض الدولة الإسلامية للخطر، ويهدد مقصد الدين والنفس والمال بالفساد والفناء، وهذا ما عبّر عنه الغزالي بقوله: "إن لم يفعل الإمام ذلك تبدد الجند وانحل النظام وبطلت الشوكة، وسقطت أمة الإسلام، وتعرّضت ديارنا لهجوم الكفار واستيلائهم، ولو ترك الأمر دربه للرماح، وهدفاً للنبال ويثور بين الخلق من التغالب والتواثب، ما تضع بها الأموال، وتعطل معها النفوس وتهتك فيها الحرم"59. إلى أن قال: "وهذا مما يعلم من كلي مقصود الشرع في حماية الدين والدنيا قبل أن نلتفت إلى الشواهد المعينة من أصول الشرع"60.
وظاهرٌ من هذا الاستدلال والتأييد للحكم، الإستناد إلى مقاصد الشريعة من حفظ الدين الذي يتم بحفظ سيادة الدولة التي تحرسه وتقوم على نشره، وحفظ النفس بحفظ الأمة التي تتعرّض بنفاذ خزائن الدولة لخطر الإصطلام61 والإجتثاث من قبل أعدائها، وحفظ المال الذي يتعرّض للإنهاب والإستلاب في حال غياب السلطة القوية القادرة على توفير الأمن وإقامته. ثم إن الإمام الغزالي يصرّح بالإستناد في ذلك إلى مقاصد الشريعة فيقول: "وهذا مما يعلم قطعاً في مقصود الشرع".
فهذه الأمثلة وغيرها كثير تكشف عن المنهج الذي كان يترسمه الأئمة المجتهدون في فقههم وإجتهادهم. وحري بالمجتهدين في عصرنا هذا، أن يترسموا ذات المنهج وألا تعزل النصوص الجزئية عن كلياتها العامة، فتفهم فهماً مبتوراً يؤدي إلى الإخلال بتلك الكليات.
هذه القواعد لا تقبل النسخ ولا النقض:
وكما أن هذه القواعد لا تنقض بآحاد الجزئيات، فكذلك هي من المكانة والقوة والرسوخ والإحكام بحيث لا يمكن أن يرد عليها نسخ.
يقول الإمام الشاطبي في معرض بيانه لمكانة القواعد المتعلقة بالضروريات والحاجيات والتحسينات: (القواعد الكلية من الضروريات والحاجيات والتحسينات، لم يقع فيها نسخ، وإذا وقع النسخ في أمور جزئية، بدليل الإستقراء، فإن كان ما يعود بالحفظ على الأمور الخمسة ثابت، وأن فرض نسخ في بعض جزئياتها، فذلك لا يكون الا بوجه آخر من الحفظ)62.
والأمام الشاطبي وإن كان قد خص بالذكر قواعد الضروريات والحاجيات والتحسينات، مبيّناً أنها غير قابلة للنسخ، فهذا لا يعني أن عدم النسخ متعلق فقط بخصوص هذه المراتب الثلاث، وإنما يشمل أيضاً كل كليات الشريعة التي تؤكد حفظ هذه المراتب وتعمقها في الوجود والواقع. وهذا ما ألح إليه بقوله السابق: (إن كل ما يعمد بالحفظ على الأمر الخمسة ثابت). كذلك يقول في موقع آخر: (النسخ لايكون في الكليات وقوعاً، وإن أمكن عقلاً)63، وعلى ذلك فإن جميع كليات الشريعة لا تقبل النسخ. ولما كانت القواعد المقصدية هي من ضمن هذه الكليات، فهي يشملها هذا الحكم كذلك.
وبناءً عليه فإنه لا يتصور شرعاً أن يقع النسخ في أي قاعدة من القواعد المقصدية مثل: (المصلحة إذا كانت هي الغالبة عن مناظرتها بالنفسدة في حكم الاعتياد، فهي المقصود شرعاً، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد)64، أو (قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده من العمل موافقاً لقصده في التسريع)65.أو (من مقصود الشارع في الأعمال دوام المكلف عليها).66
ومرد إحكام هذه الكليات – ومن ضمنها قواعد المقاصد كما بينت – أنها تتصل بمعانٍ أبدية لا يمكن أن تتعرض للنسخ أو الإلغاء، من مثل: إقامة العدل، والأمر بالبر، والنهي عن الفحشاء والمنكر، ودفع الظلم عن الناس، والحفاظ على النفس الإنسانية من الإزهاق وصون أعراض الناس وأموالهم وعقولهم من الخطر أو التفريط أو العدوان، إلى غير ذلك من الكليات الشرعية (التي تتصل بمعانٍ أبدية دلّت تجارب الأمم على ضرورتها الحيوية لكل جيل، والنزول عند مقتضياتها لأنها مقومات الحياة الإنسانية الفاضلة)67.
لذلك يقول الإمام الشاطبي منبّهاً إلى منشأ إحكام هذه القواعد وعدم إمكانية ورود النسخ عليها: (أجمعت الأمة، بل سائر الملل على حفظ هذه الأصول الخمسة)68، (وهكذا يقتضي في الحاجيات والتحسينات)69.
ولا شك أن إجماع الأمة بل الأمم على وجوب مراعاة هذه الأصول المقصدية، راجع إلى ضرورتها في حياتها، بحيث لا تستقيم الحياة الإنسانية إلا بها؛ ولهذا تُعد في التشريع الإسلامي من النظام التشرعي العام الذي لا تجوز مخالفته بأي حالٍ من الأحوال أو الإتفاق على مخالفته.
تميز القاعدة المقصدية:
هذا وللقاعدة المقصدية تميز واستقلال عن غيرها من المصطلحات القريبة من مثل: القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية، يرشد إلى ذلك المقارنة بين طبيعة القاعدة المقصدية من جهة، وطبيعة القاعدة الأصولية والفقهية من جهة أخرى.
أقسام القاعدة المقصدية:
مما يزيد القاعدة المقصدية جلاءً ووضوحاً: النظر في الأسس والاعتبارات التي يمكن أن تشـكل معالم أساسية لتقسيم القواعد المقصدية ضمن فئات مختلفة ومنظومات متعددة ومتنوعة، ويمكن أن أسجل أبرز هذه المعالم على أنه يمكن الاجتهاد في إظهار معالم أخرى تكون أساساً في التقسيم والتوزيع:
أولاً: الموضوع الذي تضمنته القاعدة المقصدية وتعبر عنه، فالقاعدة تختلف باختلاف موضوعها المباشر، الذي سبقت لبيانه وتوضيحه.
ثانياً: عموم القاعدة وخصوصها، فالقاعدة ليست كلها على وزن واحد من حيث العموم والخصوص، حيث نجد بعضها عاماً بحيث يمكن أن يستوعب غيره من القواعد أو تتفرع عنه، وبعضها الآخر أخص بحيث يتفرع عن قاعدة أوسع أو يندرج فيها.
ثالثاً: صاحب القصد، فإن القواعد المقصدية منها ما جاء ليحدد قصد الشارع من التشريع، ومنها ما سبق لوجه قصد المكلف، ليكون متوافقاً مع ما قصد الشارع، فصاحب القصد وفق ما تدل عليه القواعد، إما أن يكون الشارع، وإمّا أن يكون المكلف.
وأبين ذلك باختصار فيما يلي:
أولا: من حيث المضمون:
القواعد المقاصدية وإن كانت تتفق جميعها من حيث الموضوع العام الذي ينتظمها جميعها، والمتمثل في الغاية التشريعية التي توجهت إرادة الشارع لإقامتها عن طريق أحكامه، والمعاني العامة التي استهدفها الشارع من تشريعه، أقول: هذه القواعد وإن كانت متفقة من حيث الموضوع العام، فهي مختلفة من حيث الموضوع المباشر الذي تضمنته كل الك القواعد.
ومن خلال دراستي لتك القواعد، استطعت – بعد النظر والتأمل – أن أحدد المواضيع التالية، كموضوع مباشرة تعبر عنها القواعد المقاصدية.
1) قواعد تتعلق بموضوع المصلحة والمفسدة:
من حيث إن هذه القواعد تتحدد في تناولها لموضوع المصلحة والمفسدة، إلا أنها تختلف في كيفية تناولها لهذا الموضوع، فبعضها يبين الأساس العام الذي قامت عليه الشريعة كلها في جزئياتها وكلياتها، المتمثل في جلب المصالح ودرء النفاسد، ومن هذه القواعد على سبيل المثال لا الحصر:
(وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً) .
(الأمر في المصالح مطرد مطلقاً في كليات الشريعة وجزئياتها) .
(التكليف كله إما لدء المفاسد أو لجلب المصالح أو لهما معاً) .
(الأسباب الممنوعة أسباب للمفاسد لا للمصالح، والأسباب المشروعة أسباب للمصالح لا للمفاسد) .
(المفهوم من وضع الشارع، أن الطاعة أو المعصية تعظم بحسب عظم المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها) .
وهناك قواعد تكشف عن وجه العلاقة بين مراتب المصلحة الثلاث:
(كل حاجي وتحسيني إنما هو خادم للأصل الضروري ومؤنس بع، ومحسن لصورته الخاصة) .
(إن مجموعة الحاجيات والتحسينيات، ينتهض أن يكون كل واحد منهما كفرد من أفراد الضروريات) .
إلى غيرها من القواعد الأخرى، التي تظهر صلة كل واحد من المراتب الثلاث بغيرها من المراتب الأخرى.
وهناك قواعد تظهر دور المجتهد في الالتفات إلى المعنى المصلحي الذي سبق الحكم من أجله، وإلى وظيفته في تفهم معاني الأحكام وحكمها، مثل:
(لا بد من الالتفات إلى معاني الأمر لا إلى مجرده) .
(العمل بالظواهر على تتبع وتغال بعيد عن مقصود الشارع، كما أن إهمالها إسراف أيضاً) .
فهذه القواعد تتعلق بدور المجتهد في إدراك معاني الأحكام وغاياتها المصلحية، فجميع هذه القواعد تتناول موضوع المصلحة، وإن اختلفت كيفية تناولها لهذا الموضوع.
2) قواعد تتناول موضوع رفع الحرج:
وهناك قواعد مقاصدية تدور في فلك رفع الحرج زما ينبثق عنه من قضايا وتفريعات، والكشف عن معايير المشقة التي التسهيل والتخفيف والتيسير، والربط بين مبدأ رفع الحرج وبين قصود المكلفين، نجد هذه المعالم واضحة حين ننعم النظر في القواعد التالية:
(الشارع لم يقصد التكليف بالشاق والاعنات فيه).
(الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها، على الطريق الوسط الأعدل الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال) .
فهذه القواعد وغيرها كثير، تبين أن قصد الشارع لا يتوجه إلى خطاب المكلفين بما لا قدرة لهم عليه، أو ما لا يملكون القيام به إلا بمشقة بالغة غير معتادة.
ثم يبين الإمام الشاطبي من خلال القواعد أيضاً، ضوابط المشقة وحدودها التي تستوجب التيسير، ومن ذلك مثلاً: (إذا كانت المشقة خارجة عن المعتاد، بحيث يحصل للمكلف فيها فساد ديني أو دنيوي، فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة) .
فالإمام الشاطبي في هذه القاعدة، يسبن المشقة التي تُعد شرعاً، وهي التي فيها خروج عن المعتاد من الأعمال، بحيث يشوش على النفوس تصرفها، ويقلقها بما فيه من تلك المشقة.
على ذلك فإن المشاق المعتادة التي تكون ملازمة للعمل، بحيث لا تنفك عنه، وأضحت بمثابة الجزء المصاحب له، لا تُعد مشقة تستلزم التخفيف والتيسير.
ويؤكد الإمام الشاطبي هذا المعنى ويوثقه، حيث يأتي بقاعدة من هذا القبيل ينص فيها: (مشقة مخالفة الهوى، ايست من المشاق المعتبرة،ولا رخصة فيها البتة) .
وعدم اعتبار مشقة مخالفة الهوى، راجع إلى أنه لا يقوم التكليف أصلاً إلا بمخالفة أهواء النفوس، فإذا اعتبرت هذه الأهواء في التخفيف، كان ذلك داعياً إلى إسقاط التكيف عنه.
3) قواعد تتعلق بمآلات الأفعال ومقاصد المكلفين:
كذلك فإنني وجدت بعد التتبع والدراسة، أن بعض القواعد ينتظمها موضوع مقاصد المكلفين ومآلات تصرفاتهم، والقواعد في هذا الموضوع كثيرة:
منها قواعد تتعلق بوجوب النظر إلى المآل وضرورة اعتباره، نظراً لمراعاة الشارع له، من ذلك:
(النظر في المآل معتبر مقصوده شرعاً) .
(وينبعي على المجتهدين أن ينظروا إلى مسببات الأحكام وأسباباها لما يترتب على ذلك من الأحكام الشرعية) .
وقواعد أخرى تتعلق بتوجيه مقاصد المكلفين، بحيث تكون متوافقة مع قصد الشارع مثل:
(قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل، موافقاً لقصده في التشريع، وإلا يقصد خلاف ما قصد) .
(المقاصد معتبرة في التصرفات) .
(إذا كان الالتفات إلى المسبب من شأنه التفويه للسبب والتكملة له، والتحرض على المبالغة في إكماله، فيجب الالتفات إليه).
ويندرج تحت هذه القواعد أيضاً، القواعد التي تظهر أثر مناقضة المكلفين في تصرفاتهم لقصد الشارع، سواء أكان منشأ تلك المناقضة قصد المكلف، بحيث توجهت إرادة المكلف إلى نقيض ما قصد الشارع، أم كان منشؤها – أي المنقضة – مآل التصرف، من غير سبق قصد لتلك المناقضة.
ومن هذه القواعد أيضاً:
(كل من ابتغى في التكاليف الشرعية غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة).
(إن كان فعل الشرط أو تركه قصداً لاسقاط حكم الاقتضاء في السبب، ألا يترتب عليه أثره، فهذا عمل غير صحيح، وسعي باطل) .
(من سلك إلى مصلحة غير طريقها المشروع فهو ساعٍ في ضد تلك المصلحة) .
(كل فعل مشروع يصبح غير مشروع إذا أدى إلى مآل ممنوع، قصد المكلف ذاك المآل أم لم يقصد) .
هذه هي الموضوعات الأساسية التي تتناولها القواعد المقاصدية بالبيان والتفصيل، وفق ما ظهر لي بعد البحث والنظر.
على أنه تنبغي الإشارة، إلى أن هذه المواضيع وإن كان كل منها قائماً بذاته يشمل قواعده ومباحثه المستقلة، فإن أي موضوع من هذه الموضوعات ليس مبتوراً على غيره من الموضوعات الأخرى، التي سيقت القواعد المقاصدية لتفصيلها وتأصيلها، فموضوع المصلحة والمفسدة من الشمول والسعة، بحيث يمكن أن يندرج تحته موضوعا مآلات الأفعال ورفع الحرج، إذ إن رفع الحرج ما كان إلا تحقيقاً لمصالح العباد، ودفعاً للمفسدة عنهم.
وكذلك فإن موضوعات مآلات الأفعال، وما يندرج تحته من قواعد بمقاصد المكلفين، تبقى الصلة بموضوع المصلحة والمفسدة، ذلك بأن القواعد التي توجب النظر إلى المآل، إنما توجب مراعاة المصالح التي قصد الشارع إقامتها من الحكم، فإذا وجد المجتهد أن الحكم الأصلي ما عاد يحقق في مآله مصلحته المقصودة، نظراً لما احتف به من قرائن ووقائع، وجب أن يراعى ذاك المآل، حفاظاً على المصلحة المقصودة من الحكم.
كذلك فإن توجيه مقاصد المكلفين، لتكون متوافقة مع قصد الشارع، هو موضوع وثيق الصلة بموضوع المصلحة، إذ إن هذا التوجيه لمقاصد المكلفين، ما كان إلا حفاظاً على مصلحة الحكم من أن تنقض أن تهدر وهذه الصلة عبرت عنها القواعد المقاصدية نفسها، مثل:
(مخافة قصد الشارع، هدم لأساس المشروعات القائمة على إقامة المصالح ودرء المفاسد) .
وكما يرتبط كل من موضوعي رفع الحرج ومآلات الأفعال بموضوع المصلحة، فإن كلا من موضوع رفع الحرج، ومآلات الأفعال يتصل بالآخر أيضاً. ولقد عكست القواعد المقاصدية هذه الصلة، من ذلك مثلاً، القاعدة التي ساقها الشاطبي في معرض بيانه للمشقه المعتبرة التي تستوجب التيسير حيث قال:
(إذا كانت المشقة خارجة عن المعتاد، بحيث يحصل بها للمكلف فساد ديني أو دنيوي فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة) .
حيث حكم الشاطبي على المشقة بأنها مشقة، من خلال مآلها ونتيجتها، وهو ما يلحق بسببها من فساد ديني أو دنيوي.
ومن هذه القواعد أيضاً (ليس للمكلف أن يقصد المشقة نظراً إلى عظم أجرها، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته، من حيث هو عمل).
والقاعدة: (إذا فعل المكلف المانع قصداً لاسقاط حكم السبب المقتضي أن لا يترتب عليه ما اقتضاه، فهو عمل غير صالح) .
فهذه القواعد تفريع على الأصل العام الذي يشترط التوافق والتآلف بين قصد المكلف من التصرف مع قصد الشارع من التشريع.
وهكذا نجد أن العموم في القواعد المقاصدية ليس على وزان واحد، بل هو عمومان: (عموم أعم، وعموم أخص ينبثق عن الأعم، والعموم الأخص، إما أن يكون ضابطاً للأصل الكلي، أو مفصلاً وموضحاً لشرطه، أو موثقاً لأصله، أو مبيناً لمآله وأقسامه, وهكذا).
ثانيا: القاعدة المقصدية من حيث صاحب القصد:
والمحمور الثالث الذي يُعد أساساً في التفريق بين القواعد المقاصدية، وهو صاحب القصد، ذلك أنه بالنظر في قواعد المقاصد، نجد أن بعض القواعد جاءت تبياناً لقصد الشارع من التشريع، وبعضها الآخر جاء توجيهاً وإرشاداً للمكلف في قصده.
ولقد أشار الإمام الشاطبي في مقدمة بيانه لمقاصد الشريعة، إلى أن المقاصد تنقسم إلى قسمين:
أحدهما يرجع إلى قصد الشارع.
والآخر يرجع إلى قصد المكلف .
فإذا كانت المقاصد تنقسم إلى هذين القسمين، وفق بيان الإمام الشاطبي، فإن من اللازم أن تكون القواعد التي تضبط هذه المقاصد، جارية على وفق هذا النسق، من حيث النظر إليها وفق هذين الاعتبارين، قصد الشراع أو قصد المكلف.
ويظهر هذا بيناً في القواعد المقاصدية، ففي معرض بيان قصد الشارع جاء كثير من القواعد مثل: (المقاصد العامة للتعبد هي الانقياد لأوامر الله تعالى، وإفراده بالخضوع والتعظيم لجلاله والتوجه إليه) .
(اجتناب النواهي، آكد وأباغ في القصد الشرعي من فعل الأوامر، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح) .
(وضعت الشريعة على أن تكون أهواء العباد تابعة لمقصود الشارع فيها، وقد وسّع الله على العباد في شهواتهم وتنعماتهم بما بكفيهم) .
(من مقصود الشارع في الأعمال دوام المكلف عليها) .
(النظر في المآل معتبر مقصود شرعاً) .
(لا نزاع في أن الشارع قاصد إلى التكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما، ولكنه لا يقصد نفس المشقة، بل يقصد ما في ذلك من المصالح العائدة على المكلف) .
فهذه القاعدة وإن كانت من قواعد موضوع رفع الحرج، إلا أنها متصلة بالقواعد التي سيقت لتوجيه قصود المكلفين لتكون منسجمة مع قصد الشارع، متوافقة مع إرادته.
وهكذا يجد الباحث أن الاتصال الوثيق بين هذه الموضوعات الثلاثة، يحتم التلاقي بين قواعد هاتيك الموضوعات، ويؤكد الصلة بينها.
ثالثا: القاعدة المقصدية من حيث الكلية والعموم:
القواعد المقصدية، وإن تحقق في جميعها وصف العموم والكلية، إلا أن عمومها وكليتها ليسا على وزن واحد، فهناك قواعد هي من الكلية والعموم، بحث يمكن اعتبارها أصولاً لقواعد مقصدية أخرى تتفرع عليها، وتنبثق عنها.
وهناك قواعد أخرى، رغم كليتها وعمومها، نجدها منضوية تحت لواء قاعدة أخرى أكثر عموماً واتساعاً كلية وبيان ذلك وتفصيله يظهر فيما يلي:
فالقاعدة المقصدية (مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع أن تكون مطلقة عامة، لا تختص في باب دون باب، ولا بمحل دون محل) ، والقاعدة (الأمر في المصالح مطرد مطلقاً في كليات الشريعة وجزئياتها) ، تبينان ابتناء الشريعة على أساس جلب المصالح ودرء المفاسد في الكليات والجزئيات، وتعتبر أصولاً لغيرها من القواعد الأخرى التي تنبثق عن هذه الحقيقة المستقرة، ومن هذه القواعد المتفرعة عنها، القواعد التي سيقت لبيان حد المصالح يَعُدها الشارع من مثل: (وضع الشريعة وإن كان لمصالح العباد، فإنما هو حسب أمر الشارع، وعلى الحد الذي حده، ولا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم).
كذلك فإن القواعد المتعلقة بالضروريات والحاجيات والتحسينات تُعَد أصولاً لغيرها من القواعد الأخرى، إذ إن هذه المراتب الثلاث، هي من الشمول والاتساع، بحيث تصلح لاستعاب غيرها من القواعد المقاصدية.
ولقد أشار الشاطبي إلى ذلك بقوله: "إذ ليس فوق هذه الكليات كلي تنتهي إليه، بل هي أصول الشريعة" .
كذلك الأمر عندما نلتفت إلى القواعد المقاصدية التي تتعلق بقواعد المكلفين ومآلات تصرفاتهم، حيث نجد عند التحقيق والتدقيق، أن هناك قواعد أكثر كلية وعموماً من غيرها من القواعد مثل: (إنما الأعمال بالنيات، والمقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات) .
فهذه القاعدة التي تبين أن للقصد الذي تتوجه إليه إرادة المكلف اعتباراً وأثراً في الاعتداد بالتصرف الصادر عن المكلف، تُعَد أصلاً لغيرها من القواعد الأخرى التي تبين كيفية توجيه قصد المكلف حيث يكون صحيحاً معتبراً كم مثل: (قصد الشارع من المكلف، أن يكون قصده من العمل، موافقاً لقصده من التشريع، وإلا يقصد خلاف ما قصد) .
كما أن هذه القاعدة تُعَد أصلاً لغيرها من القواعد الأخرى مثل: (إن كان فعل الشرط، أو تركه، قصداً لإسقاط حكم الاقتضاء في السبب أن لا يترتب عليه أثره فهذا عمل غير صحيح وسعي باطل) .
فهذه القواعد كلها كما هو ظاهر منها، متعلقة ببيان قصد الشراع وعاياته، حتى يتبنها المكلف، فلا يأتي بما يناقضها، أو يكافحها صراحة.
ومن القواعد التي جاءت توجيهاً للمكلف في قصده وباعثه:
(من سلك إلى مصلحة غير طريقها المشروع، فهو ساعٍ في ضد تلك المصلحة) .
(القصد إلى المشقة باطل، لأنه مخالف لقصد الشارع، ولأن الله لم يجعل تعذيب النفوس سبباً للتقرب إليه، ولا لنيل ما عنده) .
(ليس للمكلف أن يقصد المشقة نظراً إلى عظم أجرها، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته، من حيث هو عمل) .
فكل هذه القواعد جاءت توجيهاً لقصد المكلف وإصلاحاً لباعثه، حتى لا يؤثر فساد القصد على صحة التصرف، وحتى يكون موافقاً لإرادة الشارع في الظاهر والباطن.
وبذلك فإننا نلحظ البعد الواقعي لهذه القواعد، فحتى لا تبقى القواعد المبينة لقصد الشارع محلقة في سماء التنظير البعيد عن الواقع، ربطت بجانبها العملي عن طريق القواعد التي توجه قصد المكلف، إذ أن المحافظة على مقاصد التشريع لا تتأتى إلا بما أشار إليه الإمام الشاطبي من آليات تحقق ذلك، وتتم هذه المحافظة بأن يتوجه المكلف في قصده إلى تحقيق قصد الشارع في كل حكم عملي ليتم التطابق بينهما بأقصى جهد مستطاع، فلا ينبو قصد المكلف عن قصد الشارع.
وفي هذا تفعيل لمقاصد الشريعة، من حيث إنزالها من أفقها النظري إلى جانبها العملي في الواقع والحياة، عن طريف أفعال المكلفين ومقاصدهم، ليكون المكلف بعد تحقيق هذا التوافق عبداً لله اختياراً كما هو عبد له اضطراراً.
النتائج والتوصيات
بعد أن انتهيت في المطالب السابقة من بيان حقيقة القاعدة المقصدية، وأهميتها، ومكانتها من التشريع، والفرق بينها وبين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية، فإنني أضع أبرز النتائج والتوصيات:
أولا: للقواعد المقصدية تميز واستقلال عن كلٍ من القواعد الأصولية والفقهية، من حيث الحقيقة والحجية والمضمون. وهذا يعني أننا أمام شكل جديد وضرب فريد من أشكال البحث في علم القواعد يختص بتلك التي تبحث في المعاني التشريعية العامة.
ثانياً: إن منشأ الزلل في بعض الاجتهادات المعاصرة يعود إلى عدم مراعاة الكليات التشريعية عند دراسة النصوص، والاكتفاء بتحكيم القواعد الأصولية وحدها، دون أن يقترن بذلك النظر إلى المعاني التشريعية، التي تُعَد قطب رحى الشريعة، إذ لا يصح دراسة الجزئيات بمنأى عن الكليات التي توجه الجزئيات وتضبطها.
ثالثاً: اعتمد السابقون من العلماء كثيراً من القواعد المقصدية في سبيل الحكم الشرعي، واعتبروا تلك القواعد بمثابة أدلة مستقلة ممكن أن يستند عليها لتأييد الحكم.
رابعأ: القواعد المقصدية وإن كانت مختلفة عن القواعد الفقهية والأصولية حقيقةً ومضموناً، فإنها تلتقى معها في غاية واحدة وهي اسعاف المجتهد بالقواعد العامة التي يتحتم مراعاتها والاحاطة بها عند إرادة الكشف عن الحكم الشرعي في القضايا المختلفة.
خامساً: أدعو إلى مزيد من البحث والدراسة لموضوع قواعد المقاصد، حتى يغدو مبحثاً خاصاً من مباحث علم مقاصد الشريعة الإسلامية، يجري البحث فيه على نسق البحث في القواعد الفقهية والقواعد الأصولية.
وهذا يتطلب دراسة الكتب المقاصدية دراسة متأنية ومعمقة ككتاب (الفروق للقرافي) وقاعدة الأحكام للعز بن عبد السلام، وكتب الامامين المجددين ابن تيمية واين القيم، وقبل ذلك ما قدمه الإمام الجويني والغزالي في كتبهما المختلفة، بغية اقتناص القواعد المقاصدية المبثوثة في ثنايا تلك الكتب القيمة.
سادساً: أوصي بدراسة قواعد المقاصد دراسة تحليلية تأصيلية بحيث يعم بيان حقيقة كل قاعدة على حدة, وإظهار أدلتها التي تستند إليها من موارد الشريعة المختلفة, والكشف عمّا ينبثق عن تلك القاعدة من قواعد وأصول, إضافة إلى ضرورة تفعيل تلك القواعد بالصور التطبيقية والوقائع والمسائل العملية, حتى يظهر أن هذه القواعد ليست قواعد محلّقة في سماء التنظير, وإنما هي قواعد ذات بعد عملي وفقه واقعي.
سابعاً: أوصي الباحثين والدارسين المعاصرين في علوم الشريعة بضرورة تقديم الدراسات والأبحاث التي تميل إلى ضبط علم المقاصد من خلال قواعد محددة, تقدم لوناً جديداً من الدراسة في علم القواعد وعلم المقاصد, وأذكر بعبارة الإمام الزركشي – رحمه الله – (فإن ضبط الأمور المنتشرة المتعددة في القوانين المتحدة أوعى لحفظها وأدعى لضبطها).
المصدر / جزء من بحث بعنوان قواعد المقاصد حقيقتها ومكانتها في التشريع - موقع اسلامية المعرفة

