إيجاز / خالد غريب -
إن العقل البشري ينقسم الى قسمين، أو بالأحرى الى نصفين كما وصفه علماء العلوم
النفسية والعصبية: قسم خاص بالتفكير والتنظير، والقسم الآخر بالتنفيذ والتطبيق
وتتباين النسبة بين النصفين، فمن زاده الله بسطة في نصف التفكير والتنظير يملك
القدرة القوية لقراءة الأحداث والتنظير وربط المعلومات بعضها ببعض واستنباط المعاني
والتحليلات، وإنما يكون ذلك عادة على حساب النصف الآخر الخاص بالتنفيذ والتطبيق،
فتجده قليل الحركة لا يملك القدرات التنظيمية والتنفيذية لأن مساحة العقل ثابتة،
وعلى العكس تمامًا إذا أزيد بسطة في نصف التنفيذ والتطبيق فيكون بالتالي على حساب
نصف التنظير والتفكير فتجده كثير الحركة، لديه عبقرية التنظيم والهيكلة، يملك ملكات
تطبيق النظرية المستنبطة من الصنف الأول على الواقع بحرفية ومهنية لا تناسب
الانطباع الناشئ عند محاورة هذا الصنف في القضايا الفكرية.
وبطبيعة الحال نستنتج من هذا أن من يستطيع استنباط النظريات والأفكار لا يستطيع
تطبيقها على الواقع، ومن يستطيع تطبيقها بحرفية عالية، لم يكن هو من أوجدها، وهذه
قاعدة هامة جدًا في العمل البشري عمومًا،
فإذا تأملنا في قوله تعالى في محكم الكتاب: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ
مِنْهُمْ} [النساء:83] لوجدنا أن الاستنباط وهو ما يمثل إخراج وفهم النظريات ليس
للجميع، إذًا هناك من هم مؤهلين خلقًا لذلك فضلًا عن أدوات هذا الاستنباط والتراكم
المعرفي المهم والمكمل للبناء العقلي، كأدوات الاستنباط من علوم شرعية مختلفة وإيضا
علوم دنيوية (معرفة إحوال الناس).
ولكن هل يمكن أن يتجمع في شخص واحد التنظير والتطبيق أي زيادة في مساحة النصفين؟
نعم،
وعندما تأملت في قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ
لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا
وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ
إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ
وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:247]،
والشاهد هنا هو الزيادة في العلم (القدرة على التفكير وتراكم معرفي والتنظير
واستقراء الواقع) والزيادة في الجسم (القدرة على الحركة والإدارة الميدانية
والتنفيذية).
وكما ذكرت ربما يختار الله من عباده ثم يمنّ عليهم بتلك النعم لتأهيلهم إلى مهمة
خاصة ربما تكون فيصلية وتاريخية في حياة البشر، إلا أن ذلك لن يكون متيسر في شخص
إنما هو يقينًا يمكن توفيره في الجماعة ولذلك كانت أهمية العمل الجماعي، والحرص
عليه والأمر به من الناحية الشرعية لأنه يمكن إيجاد التكامل العقلي والنفسي في
العمل الجماعي، بشرط أن يكلف كل فرد حسب طبيعة تأهيله العقلي والنفسي والمعرفي.
المفكر الإسلامي :
وتعريف المفكر الإسلامي أنه الشخص المثقف صاحب الخبرة السياسية، ويغلب عليه الميل
للمشروع الإسلامي والذي ينتج لنا تنظيرًا يتميز بأنه ليس حرامًا وليس واجبًا وليس
فرضًا وليس دائم الصلاحية وليس جزءاً من الدين وليس مقدسًا، بل إنه فكر بشري خالص
ملتزم بألا يخالف الأحكام الشرعية وهو يتناول قضايا الحكم والاجتماع والاقتصاد
وسائر مجالات الحياة ويحق لنا كمسلمين أن نقبله أو نرفضه، ولكن كلمة الشخص المثقف
هنا لابد من الوقوف عندها، فما نوع الثقافة التي تراكمت عند هذا المفكر؟ وما هي
معينها وقواعدها التي ترسي نمط التفكير العام لعقل هذا المفكر؟ حتى وإن تم تغيير
النظرية التي كان مقتنعًا بها إلى المشروع الإسلامي و بلا شك ستؤثر هذه الثقافة
المتراكمة على آلية تعاطيه وتصوره للمشروع الإسلامي.
الفقيه والداعية والعالِم الإسلامي (الشيخ):
الفقيه الإسلامي يبحث في العقيدة وفي العبادة وينتج بحثه حكمًا شرعيًا يستند إلى نص
مقدس، و يأتي حكمه صالح لكل زمان ومكان بشروطه، وهو جزء من الدين لا نرفضه إلا
بمثله من حكم فقيه آخر لديه دليل أقوى من الكتاب والسنة.
إن التمييز بين وظيفة الفقيه ووظيفة المفكر الإسلامي مهم جدًا في هذا العصر، وقد
يكون العالم الواحد فقيهًا ومفكرًا إسلاميًا في نفس الوقت وهنا يجب عليه أن يوضح
للجمهور طبيعة ما يقول به، إذا ما كان فقهًا من الدين أم فكرة لمصلحة المسلمين
وسأضرب أمثلة لذلك: الشورى في الإسلام فرض واجب التنفيذ بينما كيفية تنفيذها تأتي
نتيجة جهد فكري يأتي بأنظمة للشورى قابلة للتغيير وفقًا للأدوات والظروف المتاحة،
إنما علينا الإقرار اولًا بأن الشورى أمر واجب في أنظمة الحكم ثم يأتي دور البحث في
أدواتها المتاحة، وليس بإلغائها بالكلية واستبدالها أساسا بأنظمة أخرى.
وهنا
يظهر دور الفقيه والعالم الذي يفتي لنا بوجوب تطبيق مبدأ الشورى، إنما سيترك
للباحثين كيفية استنباط أفضل الطرق المتاحة لتطبيقها.
عندما
يفتي فقيه إسلامي بأن التوجه إلي صناديق الانتخابات والتصويت واجب شرعي، فإنه يخلط
بين ما هو فكر يحق له الدعوة إليه ويحق لنا رفضه، وبين ما هو دين يستوجب السمع
والطاعة كمبدأ الشورى مثلًا. إن محاولة تقديم الفكر على أنه دين كارثة كبرى، وتقديم
ثوابت الدين على أنها فكر قابل للبحث، كارثة أعظم يجب أن ننتبه إليها جيدًا.
والفرق بين الفقيه والكهنوت شعرة ولكنها شعرة عقائدية، الكهنوت وهي سلطة عليا أو
مؤسسة تصدر أوامر وزارية أو عليا للكنيسة هذا عند النصارى فلا صوت فوق صوت الكاهن.
أما الكهنوت عند الشيعة فقد ابتدعوا لأنفسهم درجات كهنوتية مماثلة من هذه الناحية،
فلقب (آية الله) و(آية الله العظمى) و(حجة الإسلام والمسلمين) فهؤلاء جميعاً اتفقوا
على وجوب الطاعة العمياء من قبل الكهنة ولملالي، وهذا ما أفرز نظامًا سياسيًا
رافضيًا شيعيًا وهو نظام ولاية الفقيه.
وهذا
ما أثر على تطور العمل السياسي لبعض التيارات السياسية الإسلامية، وخصوصًا التيارات
المنغلقة على عناصرها واضعة سياجات أمنية وفكرية على عقول شبابها، نظرًا للظروف
المحيطة بها وخشية من الاختراقات، وكذلك وقوعًا في براثن العمل الحزبي وولاءاته
والمنافسة السياسية.
العلاقة بين الفقيه العالِم وبين المفكر الإسلامي الفقيه:
فالأول يمكن أخذ حكم شرعي منه بعد نقل التصور من متخصص (مفكر سياسي) ولا يمكن أخد
رأي سياسي منه مباشرة. على سبيل المثال :الفتاوى الطبية فعندما يسأل فقيه فى قضية
طبية مثل زراعة الأعضاء أو ما شابه فإنه يطلب تصورًا وتقريرًا كاملًا من متخصص طبيب
مسلم لكي يفتي فى المسألة. أما الثاني فيمكن أن يؤخذ منه رأيًا سياسيًا مباشرة حيث
أنه يملك أدوات الفقه الإسلامي وكذلك الخبرة والتخصص، ودراية أحوال الناس ومتابع
للمتغيرات من حوله.
المفكر الإسلامي أو الإسلامي السياسي:
يمكن لهذا القسم أن يعمل فى إطار الثوابت المعروفة للفكر الإسلامي، أما فى حالة
تعرضه إلى قضية كبيرة تحتاج إلى حكم شرعي فيجب عليه الرجوع إلى عالم فقيه وينقل له
التصور كاملًا ويأخذ منه الحكم الشرعي، ثم يعيد صياغته في برنامج سياسي يوافق
الحالة أو المشهد الموجود دون الخروج عن الحكم الشرعي.
المصدر / طريق الاسلام
