الأحد، 4 أكتوبر 2015

تحرير المصطلحات وضرورة التجديد - 1





الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:


1-الناسخ والمنسوخ

الناس في موقفهم من النسخ يختلفون بين مقصّر ومقتصد وغالٍ، وهم في ذلك طوائف وعليه وجب تحرير هذا المصطلح مما علق به من آراء اصبحت بمرور الزمن تشكل قيود في أذهان المسلمين ادت الى انحراف بعضهم عن ارادة الشارع ومقاصد الشريعة حين تغيرت الاحوال.
ولنجعل دائما ارادة الشارع التي بينها في مقاصد الشريعة الميزان الذي نميز به بين الآراء والأجتهادات.

يحتل النسخ مكانة هامة في تاريخ الشرائع لما كان يتحقق به من نقل جنس البشر إلى الدين الذي بعده، حتى جاءت شريعة الإسلام ناسخةً لما سبقها من الشرائع ومهيمنة عليها، واقتضت حكمة الله أن يشرع أحكامًا لحكمة يعلمها، ثم ينسخها لحكمة أيضًا تستدعي ذلك النسخ؛ لأن البشر يتقلَّبون كما يتقلب الطفل في أطوار ومراحل مختلفة، ولكل مرحلة من هذه المراحل حال تناسبه وحكم يطرد بتغير الأحوال والظروف.

أولاً: تعريف النسخ:

أ- النسخ لغة: الإزالة، ومنه تقول العرب: نسخت الشمس الظل؛ أي: أزالته، وكذلك هو الرفع، ومنه يقال: نُسِخ الكتاب؛ أي: رفع منه إلى غيره.

اصطلاحًا: رفع حكم شرعي[2] بدليل شرعي[3] متأخر عنه.


ب- معنى النسخ عند السلف[4]:

فالسلف رحمهم الله عبَّروا عن النسخ بوجهين.

الأول: النسخ الكلي، وهو رفع حكم شرعي بدليل متأخر عنه.

الثاني: النسخ الجزئي، وهذا على خمسة أنواع وهي:



النوع الأول: تخصيص[5] العام[6]؛ أي: يأتي ما يدخل عموم الشيء ثم يأتي ما يخرج بعض ذلك الشيء.

مثاله: خبر ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ﴾ [النور: 27]، ثم نسخ واستثني من ذلك: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾ [النور: 29][7]، فالآية الأولى فيها نهي عن دخول جميع البيوت قبل الاستئذان، ثم خص من النهي ما كان منها غير مسكون، يدخله الإنسان لتحصيل حاجاته دون استئذان، فسمى ابن عباس رضي الله عنه التخصيص نسخًا مع استمرار العمل بالنص الثاني.


النوع الثاني: تقييد[8] المطلق[9]؛ أي: يأتي نص يأخذ شيئًا أو شخصًا غير محدد، ثم يأتي في موضع آخر ما يحدِّده.

مثاله: قول قتادة وغيره من السلف في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ [آل عمران: 102]،قالوا: نسخت بقوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]، فالآية الأولى فيها أمر بالتقوى مطلقًا، ثم قيِّدت بالاستطاعة في الثانية، فسموا تقييد المطلق نسخًا، مع أن العمل بالآية الأولى محكم لم يترك، إنما بيّن وجهه بالآية الثانية.


النوع الثالث: تبيين[10] المجمل[11] وتفسيره.

مثاله: كما وقع عند قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 284]،فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لَمَّا نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]، قال: فاشتدَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله، كُلِّفنا من الأعمال ما نُطِيق، الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أُنزِلت عليك هذه الآية ولا نُطِيقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير))، قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم ذلَّت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل:﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286]، قال: نعم، ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾، قال: نعم، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾، قال: نعم، ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾، قال: نعم[12].



فهذا الذي نزل من القرآن من بعد من وعد الله تعالى لعباده المؤمنين بالمغفرة غيرُ منافٍ للمحاسبة لهم عما أسرُّوا؛ لأن المحاسبة لا تعني العذاب، كما قال الله تعالى: ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴾ [الانشقاق: 8، 9].



وأما إضمار الكفر والنفاق وبغض المؤمنين وموالاة الكافرين، فتلك من أعمال القلوب التي يحاسب عليها صاحبها ويؤاخذ عليها، فهنا جاءت الآية الأولى مجملة، لكنها متصلة بما فسّرها، فلا نسخ فيها، كما أن هذه الآية محكمة، وتحمل خبرًا عقديًّا، ومن المعلوم امتناع النسخ في الأخبار كما سيأتي معنا إن شاء الله في مبحث ضوابط النسخ.



النوع الرابع: ترك العمل بالنص مؤقتًا لتغير الظرف.

والمراد به الإزالة الوقتية؛ أي: ترك العمل بالنص الأول مؤقتًا، والعمل بالنص الثاني، لا نسخًا، ولكن مؤقتًا، فهذه الصورة ليست معارضة بين نصين نفى المتأخرُ منهما المتقدِّمَ.


مثاله: جميع الآيات الآمرة بالعفو أو الصفح أو الإعراض عن المشركين والكفار، مع الآيات الآمرة بقتالهم أو بأخذ الجزية منهم، فقد ذكر بعض السلف أن القتال أو أخذ الجزية قد نسخ الحكم الأول، وهذا عبّرت عنه طائفة بقولهم: منسوخ بآية السيف، ولكن بالنظر والتدقيق تجد أن جميع ذلك ليس من باب النسخ في شيء؛ إذ شروط النسخ منتفية فيه، والعمل بالنصين جميعًا حاصل[13]؛ لأن كل أمر ورد يجبُ امتثاله في وقتٍ ما؛ لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وهذا ليس بنسخ؛ لأن النسخ يقتضي الإزالة، والإزالة تقتضي عدم جواز امتثال النص الثاني أبدًا[14].


النوع الخامس: نقل حكم الإباحة الأصلية.

والمراد به عندهم أن الشيء تكون الإباحةُ أصليةً فيه، ثم يأتي نصٌّ يُغيِّر الحكم فيه؛ لأنهم يعتبرون سكوت الشارع أولاً في إباحته حكمًا مستفادًا من ذلك السكوت؛ لذلك من السلف من اعتبر تغيُّر تلك الإباحة إلى حكم جديد بنص إنما هو نسخ.


فصل:

فهذه الأنواع الخمسة التي وقع إطلاق النسخ عليها من كلام السلف، ليست في التحقيق من باب النسخ الذي استقر معناه عند أهل العلم من بعد.

وحتى يكون طالب العلم متبصرًا بمقصودهم ولا يقع في محاكمة كلامِهم على اصطلاحٍ ظهر بعدهم، يجب أن نفهم مدى اعتبارهم لهذه الوجوه الخمسة نسخًا؛ وذلك لأنها تشترك في أن جزءًا من تلك النصوص لم يكن معمولاً به، فأشبهت النسخ من جهة كون الحكم فيه غير معمولٍ به، فمثلاً بحملِ المطلق على المقيد، فلا إعمال له على إطلاقه، بل المعمول به هو المقيد، فصار مثل المنسوخ، وكذلك في العام مع الخاص وباقي الوجوه.

يقول الشاطبي رحمه الله:

وذلك أن الذي يظهر من كلام المتقدِّمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام المتأخِّرين، فقد يُطلِقون تقييد المطلق نسخًا، وتخصيص العام بدليل متصل أو منفصل نسخًا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخًا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخًا[15].


خلاصة:

فهذه مسألة اصطلاحية بين المتقدِّمين والمتأخِّرين لا غير، يجب التنبه لها؛ حتى لا يقع الخلط، ويترتب عليه تعطيل النصوص ممن لم ترسخ له قدم في العلم.


ثانيًا: ضوابط النسخ:

وضع العلماء بعض الضوابط والقواعد لمعرفة الناسخ والمنسوخ، يرجعون إليها لضبطهما، نذكر منها التالي:

1- أن يكون النسخ شرعيًّا لا عقليًّا؛ لأننا قلنا: "رفع حكم شرعي بدليل شرعي لا عقلي".



2- أن يكون الناسخ متأخِّرًا عن المنسوخ منفصلاً عنه، فإن كان متصلاً به كالصفة، أو الاستثناء، أو الشرط، فلا يعتبر نسخًا، بل تخصيصًا أو تقييدًا.



3- ورود تعارض فيما تعنيه نصوص الناسخ والمنسوخ.



4- تعذر الجمع بين معنيينِ وردا في الناسخ والمنسوخ.



5- أن يكون النسخ في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبموتِه صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي.



6 - أن يكون النسخ مما يجوز نسخه؛ كجزئيات العبادات (في الأمر والنهي، ولو كانا بلفظ الخبر الذي على سبيل الطلب).



7- لا يجوز النسخ في التوحيد والعقائد، والكليات والمقاصد، وأصول العبادات والأخلاق العامة والأخبار.


ثالثًا: أنواع النسخ في القرآن:

والمراد أنواع النسخ من حيث الحكم، أو التلاوة، أو رفعهما معًا، وهم على ثلاثة أنواع:

النوع الأول: نسخ الخط والحكم؛ أي: ما رفع حكمه ونظمه.



مثاله: قالت عائشة رضي الله عنها: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات يحرمن"[16]، ومحل الشاهد أن عشر رضعات يحرمن، رُفِع خطُّها وحكمها من المصحف.



النوع الثاني: نسخ الخط دون الحكم؛ أي: ما رُفِع نظمه وبقي حكمه.



مثاله: ما رواه الشيخان وغيرهما عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب رضي الله عنهما أنهما قالا: كان فيما أنزل من القرآن [الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم]، والمقصود بالشيخ والشيخة الثيِّب من الرجال والنساء، وهذا الحكم معمول به حكمًا، منسوخ خطًّا.



النوع الثالث: نسخ الحكم دون الخط؛ أي: يبطل العمل بالحكم وتصح العبادة بالتلاوة.

.....................................................................................................................................

[1] رواه أحمد 8248، ومسلم 6281، وابن حبان 6194.
[2] الحكم الشرعي هو الخطاب الخاص بأفعال المكلَّفين.
[3] الدليل الشرعي هو ما يستفاد منه حكم شرعي عملي مطلقًا.
[4] المقدمات الأساسية في علوم القرآن لعبد الله بن يوسف الجديع - الطبعة الأولى لعام 1422هـ، 2001م، نشر مركز البحوث الإسلامية ليدز - بريطانيا، صن 208 - 217.
[5] الخاص هو اللفظ المستثنِي لبعض أفراد العموم؛ الميسر في علم أصول الفقه لأبي الحسن هشام المحجوبي وفضل الله كسكس، الطبعة الأولى 2012 دار وليلي مراكش.
[6] العام هو اللفظ المستغرق الشامل؛ الميسر في علم أصول الفقه لأبي الحسن هشام المحجوبي وفضل الله كسكس، الطبعة الأولى 2012 دار وليلي مراكش.
[7] أخرجه البخاري في الأدب المفرد 1056.
[8] المقيد هو الوصف الذي يقيد مطلق الذات؛ الميسر في علم أصول الفقه لأبي الحسن هشام المحجوبي وفضل الله كسكس، الطبعة الأولى 2012 دار وليلي مراكش.
[9] المطلق هو ما دل على ذات غير مقيدة؛ الميسر في علم أصول الفقه لأبي الحسن هشام المحجوبي وفضل الله كسكس، الطبعة الأولى 2012 دار وليلي مراكش.
[10] المبيِّن أو المفسِّر هو الدلالة الشرعية المفسرة للمجمل؛ الميسر في علم أصول الفقه لأبي الحسن هشام المحجوبي وفضل الله كسكس، الطبعة الأولى 2012 دار وليلي مراكش.
[11] المجمل هو الدلالة الشرعية التي تحمل معنيين متساويين، أو تلك التي افتقرت إلى بيان؛ نفس المصدر السابق.
[12] أخرجه مسلم 125، وابن حبان 139.
[13] البرهان في علوم القرآن للزركشي 2/42 بتصرف.
[14] البرهان في علوم القرآن للزركشي 2/42 بتصرف.
[15] الموافقات للشاطبي 3/108 - 109.
[16]أخرجه مسلم 1452، وأبو داود 2062، وابن حبان 4221.



المصدر / شبكة الألوكة - بتصرف

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة