الأحد، 26 يناير 2014

سدّ الذريعة وهَدْمُ سدّها: تأصيلٌ وتفصيل



مقال للشيخ الشريف حاتم بن عارف العوني / (سد الذرائع) المقصود به في هذا المقال , ونريد أن نحصر الكلام فيه , دون غيره مما يقع في تعريفه اختلاف : هو تحريمٌ مُؤقّت لما الأصل فيه عدمُ التحريم ؛ لأنه يُفضي إلى محرَّمٍ إفضاءً مؤكَّدًا (مُـتَيقَّـنًا) أو راجحًا (بغلبة ظن) .
هذا هو (سد الذرائع) الذي يكثر بسببه الاختلاف , ولذلك خصصت هذا المعنى من معانيه بالتفصيل .
ولشرح هذا التعريف أقول :
عبارة (تحريم) أُخرجُ بها القولَ بالكراهة ؛ لأن القول بالكراهة لا يُلزم باجتناب المكروه . وأنا في هذا المقال إنما أتحدث خاصة عن الإلزام بالاجتناب , ولا أتحدث عن اختيار الاجتناب وتفضيله , بلا إلزامٍ به .
وعبارة (مؤقّت) تُـخرج التحريم
المؤبّد ؛ لأن ذرائع المفاسد لها حالتان في التذرُّع بها إلى المفسدة :
الأولى : إما أن تكون ذريعةً للمفسدة دائما أو غالبا (وليست في ظرف زماني محدد أو مكاني معيّن) : فتُمنع تلك الذريعةُ حينئذٍ منعا مطلقا . وهذا النوع من الذرائع لا بد أن يكون منصوصا على تحريمه في نصوص الوحي (من الكتاب أو السنة) , كتحريم الخلوة بالأجنبية ؛ لأن ما كان مؤديا للمفسدة غالبا لا يمكن أن يكون مباحا بمقتضى الأصل , إيمانا منا بكمال الشريعة , وأنها جاءت لتحقيق المصالح وتكثيرها , ودفع المفاسد وتقليلها . ولا يمكن أن تكون هذه الذرائع محرمةً فقط في ظروف خاصة , وأن الأصل فيها الإباحة , رغم أنها دائما أو غالبا تؤدي إلى المفاسد ! لا يمكن ذلك ؛ إلا بنسبة النقص إلى الشريعة , وحاشا مسلما من اعتقاد هذا الاعتقاد .
الثانية : وإما أن تؤدي الذريعةُ إلى المفسدة في ظروف خاصة استثنائية , فهي تؤدي إلى المفسدة غالبا في هذا الظرف والوقت الخاص , وربما في مكان معين دون غيره من الأمكنة , ولم تكن كذلك في بقية الأوقات ولا في بقية الأمكنة : فتُمنع هذه الذريعةُ منعا مؤقتا في ذلك الزمن وفي ذلك المكان ؛ لأن الأصل فيها الإباحة ؛ ولأن تذرُّعَ المفسدة بها تذرُّعٌ مؤقّت محدود الظرف .
ومع هذا المنع المؤقت : يجب الحرص على الخروج من حالة الضرورة هذه ، والتي اضطرتنا إلى الخروج في تلك المسألة عن أصل حكمها (والذي هو عدم التحريم) إلى القول بالتحريم ؛ لأن الخروج من حالة الاضطرار التي أجبرتنا على الخروج عن الحكم الأصلي لله تعالى واجب شرعي , لا تكتمل قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) إلا به , كما لا تتم أيضًا إلا بقاعدة (والضرورات تقدّر بقدرها) .
و(ما الأصل) : أي لولا تذرعها إلى الحرام لما كانت محرّمة , حيث إن حكمها الأصلي عدم التحريم : إما لورود النص الدال على عدم حرمتها , أو للبراءة الأصلية الدالة على الإباحة .
و(ما الأصل فيه عدم التحريم) , ولم أقل : (ما الأصل فيه الإباحة) : ليشمل ما الأصل فيه الإباحة أو الكراهة أو الاستحباب أو الوجوب , ثم أخرجته الذريعةُ من شيء من ذلك إلى التحريم .
و(لأنه يُفضي إلى محرَّمٍ) : فما دمنا لا نتحدث إلا عن ذريعة حُكْمُها التحريم , فلا بد أن تُفضي إلى محرَّم , لا إلى مكروه .
و(إفضاءً مؤكَّدًا (مُـتَيقَّـنًا) أو راجحًا (بغلبة ظن)) : فالإفضاء لا يصح أن يكون بظن مرجوح ولا بشكوك ووساوس ؛ لأن سادَّ تلك الذريعة يريد أن يبدّل حكمها الأصلي من عدم الـحُرمة إلى التحريم , وهذا التبديل بلا مسوّغ لا يجوز قطعا , وهو في أقل أحواله أن يكون كبيرة من الكبائر ؛ لأنه افتراء على الله تعالى : ((ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون)) [النحل:116]. ولذلك لا بد لهذا التبديل الذي يبدِّل حكمَ الله من أن يستند إلى دليل يجيز حكمُ الله به التبديلَ , والظن المرجوح والأوهام والشكوك ليست أدلة , ولا يكون دليلا مجيزا لذلك إلا ما كان يقينا أو ظنا غالبا .
هذه خلاصةٌ جامعةٌ عن (سد الذرائع) ، وهي بتعبير أصحاب الكتب الصفراء العتيقة : (متنٌ) ، يحتاج إلى حاشيةِ شرحٍ وتوضيحٍ !
وقبل أن أدخل في بعض التفاصيل أود أن أبين بأن هذا المقال موجّهٌ لإخواننا حُرّاس الفضيلة : ممن يرغبون في حماية الدين , ومن الغيورين على الأخلاق . وليس موجّهًا لدُعاة الرذيلة , ممن يحاربون الدين , ويسعون في نشر الفساد في الأرض . ولذلك فسوف أتجاوز فيه بعض المسلّمات بين حُرّاس الفضيلة , وإن حاول دُعاة الرذيلة التشكيكَ فيها .
لكن لا بُدّ أن أؤكد في هذا السياق على أنّ العمل بسدّ الذريعة قاعدةٌ فقهيّة قطعيّة : قد دل عليها الكتاب والسنة والإجماع , ويقتضيها العقل السليم والفطرة البشرية السوية , ومعمولٌ به في كل قوانين العالم وأنظمة المصالح العامة والخاصة . فلا يُشكِّكُ أحدٌ من العقلاء في هذه القاعدة ؛ إلا أن يكون خلافُه في بعض جُزئياتها , وربما انضاف إلى ذلك أنه مُبطلٌ مفسِدٌ يعرف الحق ويصرُّ على نصر الباطل .
أما أدلة القرآن على قاعد (سدّ الذرائع) : فيكفي منها قوله تعالى ((ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)) [الأنعام: 108 ] , فسبّ الأصنام من آلهة المشركين وانتقاصها وتحقيرها مع كونه ليس باطلا , فقد نهانا الله تعالى عنه ؛ لأنه سيؤدي إلى مفسدة أعظم , وهي أن يسبّ المشركون الله تعالى .
وأمّا أدلة السنة : فيكفي منها ما جاء في الصحيحين عن عَائشَةَ زوْجِ النبي صلى الله عليه وسلم : «أنَّ رسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ألَمْ ترَيْ أنَّ قوْمَكِ حين بنَوْا الْكعْبَةَ اقْتصَرُوا عن قَوَاعدِ إبراهيم ! قالت : فقلت : يا رسُولَ الله , أفَلَا ترُدُّهَا على قَوَاعدِ إبراهيم ؟ فقال رسول اللّهِ صلى الله عليه وسلم : لوْلَا حِدْثَانُ قَوْمكِ بالْكُفْرِ , لفَعَلْتُ» , وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم : «لَولَا أنَّ قَومَكِ حدِيثُو عَهدٍ بِجاهِلِيَّةٍ , لَأَنفَقْتُ كَنزَ الكَعْبَةِ في سبِيلِ الله , وَلَجَعَلتُ بابَهَا بِالأَرْضِ , ولأدخلت فيها من الحِجْرِ» . فهنا يصرح النبي ^ أنه ترك الأمر الفاضل خشيةً من أن يكون ذريعةً لمفسدةٍ محرمة أكبر من مصلحة إعادة البناء على قواعد إبراهيم .
وأمّا الإجماع : فقد نقله عدد من الأئمة , من مثل الإمام القرافي (ت684ه) في كتابه الذخيرة (1/152-153) , والفروق (3/405-412) , والشاطبي (ت790ه) في كتابه الموافقات (5/185) . وما نِزاعُ مَن نازع مِن العلماء في صحّة هذا الإجماع ؛ إلا من نوع النزاع اللفظي المتعلّق بالمصطلح فقط , وليس نزاعًا حقيقيا مؤثّرا في صحّة الإجماعِ على العمل بأصل قاعدة (سدّ الذرائع) , ذلك الإجماعِ الذي عليه الفقهاءُ جميعهم : من أئمة المذاهب الأربعة وغيرِهم من أئمة السلف . إذ إن قاعدة دفع مفسدة متيقّنة أو غالبة بمفسدة أخرى أخف منها , كمفسدة منع المباح في الأصل لكونه سيؤدي إلى مفسدة أكبر , وهي قاعدة (سدّ الذرائع) = فقاعدةٌ لا يخالف فيها عاقل , فضلا عن فقيه . وإلى جميع ذلك يدل أيضا تقرير ابن قيم الجوزية في باب سدّ الذرائع , في كتابه إعلام الموقعين (3/135-159) .
وأما اقتضاء العقل السليم لها , وأن العمل عليها في الدساتير والقوانين والأنظمة , فيكفي للدلالة عليه المثال التالي : فلو وقع شجارٌ شديدٌ بين عدد من الرجال , حتى تناولوا بعضَهم بالأيدي , فقام أحد هؤلاء المتشاجرين إلى بائع بجوارهم كان يشاهد هذا الشجار , فطلب منه الاستعجال في بيعه سكّينا معروضة أمامه , وظاهرٌ من شجاره ومن قرائن أحواله أنه يريد السكين ليستخدمها ضدّ خصمه الذي كان يشاجره حينها = فهل هناك عاقل يقول بجواز بيع السكين على هذا ؟! مع أن بيع السكين حلال في الأصل! وهكذا .. فأنت ترى أن العقلاء كلهم يمنعون من بيع السكين في هذه الحالة ؛ لأنه كان ذريعة للاعتداء بالقتل , مع كون بيعها في الأصل تعاملا معتادا مقبولا في جاري الأحوال .
ومن نظر في عموم الأنظمة والقوانين , يجد أنها لا بد أن تراعي هذه القاعدة . وإلا فأنظمة المرور : لماذا تمنعني من السير في طريق إلا في اتجاه معيّن ؟ ولماذا أقف عند إشارة الضوء الأحمر ؟ ولماذا وُضعت غيرها من أنظمة المرور التي تقيّد حريتي ؟ والتي نجدها أنظمةً تمنع عباد الله من أن يسيروا في أرض الله !! الجواب هو : وُضعت هذه الأنظمة سدًّا لذرائع إلى مفاسد عظيمة , تفوق مفسدة تقييدِ الحريّة ؛ تهذيبًا للحرية , لا إلغاءً لها .
إذن لا يمكن أن يساومنا عاقلٌ على صحّة قاعدة (سدّ الذرائع) ؛ لأنها قاعدة شرعية قطعية , تتفق عليها العقول , وتقررها جميع القوانين والأنظمة , على اختلافها واختلاف أديانها وأوطانها .وإنما يقع الاختلاف بين العقلاء في تطبيق قاعدة سدّ الذرائع , لا في أصل القاعدة : فمن رأى من حُراس الفضيلة أن الزنا مفسدةٌ كبرى , سعى لسدّ الذرائع المفضية إليه (بظنٍّ غالبٍ أو يقينٍ) , سواء جاءت نصوص الشرع بسدها أصلا (كالحجاب , والخلوة) , أو لم يأت النصّ عليها , ما دامت ستفضي غالبًا أو يقينا إلى المحرّم المنصوص عليه . ومن رأى من دُعاة الرذيلة أن الزنا ليس مفسدة , خالف الفريق الأول في سدّهم لذرائعها , وربما سلّموا بالذرائع المنصوص عليها خوفًا من المحاربة الصريحة لأحكام الله تعالى , ونازعوا في الذرائع غير المنصوص عليها , وربما صرّحوا بعدم قبول سدّ الذرائع كلها (المنصوص منها وغير المنصوص) . فخلاف هؤلاء حينها ليس في قاعدة سدّ الذرائع ؛ لأنهم يعملون بها في مجريات حياتهم , بل يعملون بـ(سدّ الذرائع) حتى في تخطيطهم لمحاربة الفضيلة , وإنما اختلفوا مع حراس الفضيلة في التطبيق ؛ لأن دعاة الرذيلة يخالفون في كون الزنا رذيلة , ولا يسلّمون بكونه مفسدة أصلا !!
وأرجو بهذا التوضيح أن ننتهي من الجدل العقيم حول صحة هذه القاعدة الشرعية العقلية الفطرية , وهي قاعدة (سدّ الذرائع) , وأن ننصفها , بأن نخرجها من دائرة الأمر الذي يجوز الاختلاف فيه بين العقلاء (ولن أقول : بين المسلمين) , إلى دائرةٍ أخرى , هي دائرةُ ما لا يجوز الاختلاف فيه بينهم ؛ فقد ظلمناها كثيرًا عندما سمحنا لبعضنا في أن يناقش أصل صحتها . كما أرجو أن ننصف دُعاة الرذيلة أيضًا , فلا يمكن أن يكونوا مُعارِضِين في صحّة هذه القاعدة ؛ لأنهم يسلّمون بها في الأنظمة والقوانين , وفي مجريات حياتهم , , بل يعملون بـ(سدّ الذرائع) حتى في تخطيطهم لمحاربة الفضيلة (كما سبق) . فلا يصحّ أن نظلم هؤلاء أيضًا : بأن ننسب إليهم عدم التسليم المطلق لقاعدة (سدّ الذرائع) , وإنما يعارضون في تطبيقاتها الشرعية فقط , أو في بعض التطبيقات الشرعية ؛ لأنهم لا يعترفون بالمفاسد الشرعية , أو ببعضها !!
لننتهي من هذا التقرير : إلى أن (سد الذرائع) أصل يتفق عليه عقلاء بني آدم .
أما خطابي الموجّه إلى حراس الفضيلة فيبدأ من تنبيههم إلى قاعدتين اثنتين من قواعد إحسان تطبيق (سدّ الذرائع) , لا بدّ من الحرص البالغ على التنبّه لهما , وعلى مراعاتهما المراعاة التامة عند إرادة تطبيق (سدّ الذرائع) في مسألة من المسائل .
وهاتان القاعدتان هما :
الأولى : أن الذرائع غير المنصوص على تحريمها , فهي لذلك مباحة في أصلها , لا يجوز لي أن أحرّمها لمطلق أنها ربما كانت ذريعةً ووسيلةً للمحرّم , بل لا بد أن يكون التوسُّلُ بها إلى المحرّم أمرًا يقينيًّا أو ظنًّا راجحًا . فالذريعة إلى المحرّم بمجرّد الظن المرجوح وبالشك لا وزن لها , ولا يجوز أن أحرّم بها ما أباح الله تعالى ؛ لأنها عارضت يقينًا , وهو إباحة الله تعالى لها . وتحريم ما أباح الله تعالى قرينُ إباحةِ ما حرّم الله تعالى في الخطأ والإثم , فلا يجوز التهاون به , ولا التهافتُ عليه , بحجة حراسة الفضيلة , ولا بأي حجة !! ((ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون)) النحل: 116 .
كما أن تحريم المباح بحجّة أنه يمكن أن يفضي إلى المحرّم , ولو باحتمال ضعيف , يؤدّي إلى تحريم المباحات كلها ؛ فما من مباحٍ قط , إلا وقد يُفضي إلى محرّم . ومعنى ذلك : أن تحريم المباح بحجة أنه ذريعةٌ إلى مفسدة لا يجوز ؛ إلا إذا غلب على ظن الفقيه أو تيقّن أنه سيؤدي إليها . أما بغير غلبة الظن (على أقل تقدير) في تأديته للمفسدة , فلا يجوز تحريم المباح بمجرّد الشك أو الظن المرجوح .
ومن هنا نعلم أن الاختلافَ قد يقع بين العلماء في ذريعةٍ بين مبيحٍ ومحرِّمٍ ؛ لاختلافهم في درجة إفضائها للحرام . لا بسبب الاختلاف في قاعدة سدّ الذرائع , ولا للاختلاف في المفسدة أنها مفسدة , بل في الوسيلة إليها , هل يغلب على الظن أنها ستؤدي إلى المفسدة ؟ أم لا تصل إلى ذلك ؟
ومن هنا نعلم أيضًا : أن هذا الباب بابٌ لا يتقنه إلا العلماء الذين جمعوا مع العلم بالشريعة علمًا بالوقائع والأحوال . أما العلماء بالشريعة مع جهلهم بالواقع محلّ الإفتاء فليسوا أهلا للكلام فيه , ولا يجوز منهم ذلك أصلا ؛ لنقص أهليّتهم فيه .
كما لا ينفع في هذا السياق أن يقول عالمٌ : هذا مما يغلب على الظن أنه ذريعة للحرام , بمجرّد الدعاوى على تغليب الظن ورجحانه ؛ فالدعاوى وحدها ليست كافية للتحليل والتحريم , خاصة عند خروج الحكم بالحلّ أو التحريم عن الأصل الشرعيّ فيه , كما هو الحال في سد الذريعة بتحريم المباح الذي يُتَـذَرَّعُ به إلى المعصية . لأننا إن سمحنا للدعاوى بغير بيّناتٍ ظاهرةٍ أن تحلِّلَ أو تحرّم , خشينا مِن تَسَلُّطِ الطبائع والأذواق على الأحكام , ليتشدّدَ المتزمّت أو من كان مبالغًا في سوء الظن , ويتساهل المفرّط أو من كان مبالغًا في تحسين الظن : فيحرِّم الأول ما أباح الله , بحجة سدّ الذريعة في غير موطنها ؛ لأنها لم تستكمل شرطها , ويبيح الثاني ما حرّم الله من الذرائع التي استكملت شرطها , مما دلّ على تحريمها النصُّ الصريحُ أو الاجتهادُ الصحيح . ولا نستثني من وجوب أن يكون القول مبنيًّا على برهانه الصحيح عالمًا ولا غيره , فكلهم مطالبٌ بأن لا يقول قولا بغير دليل ؛ وإلا دخلنا في قوله تعالى ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله)) [التوبة: 31] , من جعل العلماء مصدرا للتشريع والتحليل والتحريم .
وهنا تظهر أهميّة العلم بالواقع وبالحال الذي يحيط بالمباح ؛ لأن العلم بذلك هو الذي سيخرج بالحكم اللائق به , بناءً على درجة احتمال إفضاء المباح إلى المفسدة : هل يصل إلى حدّ غلبة الظن , فيُحرَّم , أما لا يصل إلى ذلك , فلا يُحرَّم .
وأما القاعدة الثانية (وهي أدق القاعدتين) : فهي أن (سدّ الذرائع) كما يكون بمنع المباح الذي يغلب على الظن أنه يُتوسَّلُ به إلى الحرام , فيكون أيضًا بتوسيع المباح , من خلال تكثير أحواله وتشقيق صُوره( ) , بل بتوسيعه ليدخل فيه المكروه , وذلك عند خشية الوقوع في الحرام! بل يكون (سد الذرائع) أيضًا بتقديم المحرَّم من الصغائر على المحرّم من الكبائر ! بل بتقديم المفسدة الأقل فسادًا (ولو كانت من الكبائر) على الأعظم إفسادًا , من باب (دَرْءِ أعظم المفسدتين بأخفِّهما) عند تَـعَـيُّنِ إحداهما , و(تقديم أعلى المصلحتين على أدناهما) عند عدم إمكان الجمع بينهما . كما يجوز أو يـجب السكوت عن إنكار المنكر , إذا كان يترتّب على الإنكار منكرٌ أعظم .
إن سد ذريعة الحرام بتوسيع دائرة المباح ليشمل كل صور الإباحة , أو لشمل المكروه أيضًا , وليشمل كذلك المحرّم الأخف من حُرمة ومفسدة المحرّم الذي نسعى لسد الذريعة إليه , هو ما يسميه بعض العلماء بقاعدة (فتح الذرائع) .
ففتح الذريعة بناء على ذلك هو : (المنع من تحريم غير المحرم بحجة سد الذريعة , إذا أمكن سدُّ الذريعة بغير تحريمه . وإباحة غير المباح إباحةً مؤقتة , لأن المنع منه يفضي إلى حرام أعظم مفسدة من غير المباح , إفضاء متيقنا أو راجحا) .
وعرفها أحد الباحثين المعاصرين بقوله : « إباحة الممنوع في الظاهر ؛ لإفضائه إلى مصلحة معتبرة» . الاجتهاد الذرائعي للدكتور محمد التمسماني الإدريسي (133) .
وذكر هذا الأصل عدد من العلماء , وصُنف فيه بعض الرسائل العلمية المعاصرة , ومن ذلك :
يقول الإمام أبو بكر ابن العربي المالكي (ت543هـ) : «اعتبار الحاجة في تجويز الممنوع , كاعتبار الضرورة في تحليل المحرم» . المسالك في شرح الموطأ له (6/28) , والقبس له (2/790) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ) وهو يتكلم عن الصلوات ذوات الأسباب في وقت النهي : «لأن النهي عن الصلاة إنما كان سدا للذريعة إلى التشبه بالكفار , وما كان منهيا عنه سدًّا للذريعة , فإنه يُفعل لأجل المصلحة الراجحة . كالصلاة التي لها سبب , تفوت بفوات السبب » . مجموع الفتاوى (22/298) .
وفي ذلك يقول الإمام القرافي (ت684هـ) : «اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح فإن الذريعة هي الوسيلة فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة ... (إلى أن قال : ) قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة , إذا أفضت إلى مصلحة راجحة : كالتوسل إلى فداء الأسارى بدفع المال للكفار الذي هو محرم عليهم الانتفاع به , بناء على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة عندنا . وكدفع مال لرجل يأكله حراما , حتى لا يزني بامرأة إذا عجز عن دفعه عنها إلا بذلك , وكدفع المال للمحارب حتى لا يقع القتل بينه وبين صاحب المال عند مالك رحمه الله تعالى , ولكنه اشترط فيه أن يكون يسيرا . فهذه الصور كلها الدفع وسيلة إلى المعصية بأكل المال , ومع ذلك فهو مأمور به ؛ لرجحان ما يحصل من المصلحة على هذه المفسدة » . الفروق للقرافي (2/63-65) .
وسبقه إلى نحو هذا التقرير العز ابن عبد السلام (ت660هـ) في قواعد الأحكام الكبرى (1/176-177) .
ومن أمثلة فتح الذرائع في كتاب الله تعالى بتحليل ما كان محرما قوله تعالى ((علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم)) . البقرة: 187, فقد كان الحكم في أول إيجاب صيام رمضان : أن من نام أو صلى العشاء أمسك عن الطعام والشراب والجماع حتى غروب الشمس , فعسر ذلك على المسلمين , واختانوا أنفسهم : أي ظلموها بالوقوع في المنهي عنه , فخفف الله عن المؤمنين , ووسع عليهم المباح , بتجويز مباشرة النساء في ليل رمضان كله , حتى الفجر .
ومن أمثلتها أيضا قوله تعالى : ((ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا )) البقرة: 235, لما حرم الله تعالى التصريح بخطبة المرأة المعتدّة من وفاة زوجها , وعلم تعالى أن الناس لا يصبرون عن الخطبة , خفف عنهم الحكم , بأن أباح التعريض بالخطبة دون تصريح !! فما أرحم الله بعباده وأرأفه بهم , وما أقسى بعض عباده بعباده وأغلظه عليهم !! فواضحٌ من الآية : أن الأتم والأصلح هو عدم الخطبة تصريحا وتلميحا , لكن لما علم الله تعالى ضعف بني آدم , وأن كثيرا منهم لن يقدروا على أن يصبروا دون خطبة في فترة العدة , خفف عنهم ذلك بإباحة التلميح والتعريض !
وكما نستدل على صوابية منهج سد الذريعة بما سدته نصوص الشرع , ونقيس عليها ما وافقها , كذلك نحتج على صوابية منهج فتح الذريعة بما فتحته نصوص الشرع , ونقيس عليها ما وافقها .
ومن أمثلتها في السنة : قوله صلى الله عليه وسلم : «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس , ويقول خيرا , وينمى خيرا» . فإباحة الكذب للمصلحة الراجحة على مصلحة الصدق , ولدفع مفسدة الاختلاف ومفسدة الفُرقة بين المسلمين والمتآلفين بمفسدة الكذب والإخبار بخلاف الواقع : هذا هو (فتح الذرائع) .
والحقيقة أن (فتح الذرائع) بهذا المعنى ينطلق من قواعد فقهية عديدة , من مثل : (الضرورات تبيح المحظورات) ومكملاتها , و(الحاجة العامة تُنزَّل منزلة الضرورة الخاصة) , و(العبرة بالمآل) , و(درء أعظم المفسدتين بأخفهما) , و(تقديم المصلحة العليا على المصلحة الدنيا) , ونحوها من القواعد التي تراعي فقه المقاصد وفقه الأولويات .
والانطلاق من هذه القواعد الفقهية المتفق عليها , لا تجد فيه نزاعا , ولن تجد , بشرط التطبيق الصحيح لها . بل إن تقرير ذلك هو من جنس ما تأتلف عليه الآراء , ويتفق عليه عقلاء بني آدم , وبه تُسَـيَّـرُ مصالحُ الشعوب والأُمم .
ومن هنا يظهر أن حَصْرَ سدِّ الذرائع في تحريم الحلال خطأٌ كبير , كما نشاهده في كثير من الفتاوى المعاصرة ؛ لأن سدَّ الذرائع قد يكون أيضا بتوسيع دائرة المباح , وسدُّ الذرائع بتوسيع دائرة المباح أولى من سدها بتحريم المباح , بل الصحيح أن نقول : إن سدَّ الذرائع بتوسيع دائرة المباح (ولو بفعل المكروه) لسدِّ ذريعة الحرام منهجٌ واجبُ التقديم على (سد الذرائع) بتحريم المباح , لا يجوز العدول عنه إلى سد الذريعة بتحريم المباح ؛ إلا عند العجز عنه !! حيث إن تحريم المباح ذنبٌ عظيمٌ من كبائر الذنوب , كتحليل الحرام تمامًا , ولا يجوز مثله إلا لضرورة حقيقيةٍ ملجئة ؛ إذْ لا يبيح المحظرواتِ إلا الضرورات , وليس هناك ضرورةٌ لارتكابِ الحرام (الذي هو تحريم المباح سدًّا للذريعة) ما دام من الممكن أن نسد الذريعة بتوسيع المباح , ولو بارتكاب المكروه ؛ لأن إيجاد المخارج المباحة هو الحل الإسلامي للمشكلات الذي يسعى إليه كل حريص على دينه ؛ ولأن المكروه لا إثم على مقترفه ولا يستحق العقوبةَ , ولا ينحصر عدم التأثيم بالمكروه في وجود ضرورة ملجئة إليه , كما هو الحال في الأمر المحرّم الذي ينحصر عدم التأثيم به في وجود ضرورة ملجئة إليه .
ولذلك فإن أيَّ سدِّ ذريعةٍ بتحريم المباح يُشترط لجوازه وصحة الفتوى بها : هو أن لا يمكن سدّ الذريعة من خلال المباحات أو المكروهات . فإذا أمكن سد الذريعة بتوسيع دائرة المباح أو المكروه لم يجز أن نسدها بتحريم المباح , ولم تصح تلك الفتوى التي حرمت المباح حينها .
وهذا أمرٌ مهم وخطير , ويبيّن خلل كثير من الفتاوى المعاصرة , التي تبادر إلى تحريم المباح بحجة سد الذريعة , مع إمكانية سدها بالمباح أو المكروه !
وهو أمرٌ مهم وخطيرٌ أيضا ؛ لأنه يُلزم المفتي بأن يتأمل الواقعة التي تَرجَّحَ لديه أن فيها ما هو ذريعة للحرام , وأن يبذل غاية جهده وأن يستقصي في إيجاد سدٍّ لتلك الذريعة ليس فيها تحريمٌ لحلال ؛ لأن هذا هو الواجب عليه .
ولذلك فإن باب سدِّ الذرائع بابٌ واقعيٌّ بكل جدارة , ولا يُحسنه إلا من كان عالمًا بالواقع عموما , وبالواقعة محلّ البحث خصوصًا . وأما العالمُ البعيدُ عن الواقع أو ناقصُ العلمِ به نقصًا كبيرًا فسيكون عاجزًا عن إتقان هذا الباب كثيرَ العثار والخطأ فيه .
ومما يؤكد على وجوب تفعيل هذا النظر الفقهي القائم على فتح الذرائع لمنع الوقوع في المحرمات : أن نتنبّه إلى أن الفقيه قد ينظر إلى المحرّم الذي يريد سد الذريعة إليه , فقد يتساوى في نظره النظري سبيلان اثنان لسد الذريعة : أحدهما سدٌّ بتحريم المباح , أو بالحث على الامتناع دون تصريح بالتحريم , وثانيهما : سدٌّ بتوسيع دائرة المباح , أو بالحث على عدم الامتناع عن غير المباح سدًّا لذريعةِ حرامٍ كبيرٍ ودفعًا لمفسدته الغالبة , فقد يكون حينها واقعُ الناس الإيماني هو المرجّحَ في اختيار أيٍّ من هذين السبيلين : فإن كانت التقوى هي الأكثر شيوعا بينهم والورع غالبٌ عليهم : كان سد الذريعة بالمنع أولى ؛ لأنهم يقدرون عليه ؛ ولأن التورع عن الشبهات والتباعد عن المحرمات (ولو بترك بعض المباحات) صفةُ كمالٍ يُمدح القادرون عليها . وأما إن كان الناس بخلاف ذلك , فكانوا أضعف إيمانا وأقل ورعا , فيجب على الفقيه أن يسد الذريعة بالطريقة الثانية : بتوسيع دائرة المباح أو بالحث على عدم الامتناع عن غير مباح ؛ لأن الناس لا يقدرون على غيرها ؛ ولأن صفات الكمال فضلٌ ممدوح لكنها لا إلزام بها ولا تأثيم .
وإلى ذلك أشار أحد فقهاء الشافعية في القرن السابع الهجري , فقد نقل الزركشي (ت745هـ) عن ابن المنيّر (ت683هـ) : « عن بَعْضِ مَشَايِخِ الشَّافِعِيَّةِ , أَنَّهُ فَاوَضَهُ في ذلك , وقال : أَيُّ مَانِعٍ يَمْنَعُ من تَتَبُّعِ الرُّخَصِ , وَنَحْنُ نَقُولُ : كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ , وَأَنَّ المصيبَ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّن ,ٍ وَالكُلُّ دِينُ الله , وَالعُلَمَاءُ أَجْمَعُونَ دُعَاةٌ إلَى الله . قال : حتى كان هذا الشَّيْخُ (رَحِمَهُ الله) من غَلَبَةِ شَفَقَتِهِ على العَامِّيِّ , إذَا جاء يَسْتَفْتِيهِ مَثَلًا في حِنْثٍ , يَنْظُرُ في وَاقِعَتِهِ , فَإِنْ كان يَحْنَثُ على مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ , وَلَا يَحْنَثُ على مَذْهَبِ مَالِكٍ , قال لي : أَفْتِهِ أنت , يَقْصِدُ بِذَلِكَ التَّسْهِيلَ على المستفتي ؛ وَرَعًا .
(قال : ) كان يَنْظُرُ أيضًا في فَسَادِ الزَّمَانِ , وَأَنَّ الغَالِبَ عَدَمُ التَّقيُّدِ , فَيَرَى أَنَّهُ إنْ شَدَّدَ على العَامِّيّ رُبَّمَا لَا يَقْبَلُ منه في البَاطِنِ , فَيُوَسِّع على نَفْسِهِ , لَا مُسْتَدْرِكًا وَلَا تَقْلِيدًا( ) , بَلْ جُرْأَةً على الله تَعَالَى , وَاجْتِرَاءً على المحرَّم . قُلْت : كما اتَّفَقَ لِمَنْ سَأَلَ التَّوْبَةَ , وقد قَتَلَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ . قال : فإذا عَلِمَ أَنَّهُ يَؤولُ بِهِ إلَى هذا الانْحِلَالِ المحضِ , فَرُجُوعُهُ حِينَئِذٍ في الرُّخْصَةِ إلَى مُسْتَنَدٍ وَتَقْلِيدِ الإمَامِ أَوْلَى من رُجُوعِهِ إلَى الحرام المحضِ . قُلْت : فَلَا يَنْبَغِي حِينَئِذٍ إطْلَاقُ القَوْلِ بِالجوَازِ مُطْلَقًا لِكُلِّ أَحَدٍ , بَلْ يَرْجِعُ النَّظَرُ إلَى حَالِ الْمُسْتَفْتِي وَقَصْدِهِ ...» , إلى آخر كلامه في ذلك , كما في البحر المحيط للزركشي (6/324-325) .
فهذا مثالٌ من أمثلة شفقة الفقهاء الأوائل بالأمة , وإلى تأثير حال الناس في قوة إيمانهم وضعفه على اختيار الفقيه لهم ما يكون أصلح لأديانهم وأقوى لإيمانهم وأقرب إلى مرضاة ربهم .
وأما إذا انغلق علينا بابُ سدِّ الذريعة بالتوسع في الحلال , فلم يمكن أن نسد ذريعة الحرام إلا بتحريم المباح : فعندها ننظر في مفسدة ارتكاب الحرام الذي عجزنا عن سد ذريعته وفي مفسدة تحريم الحلال سدًّا للذريعة : فإن كانت مفسدة ارتكاب الحرام أهون من مفسدة سد ذريعته , لم نسد ذريعته ؛ لأن سد الذريعة حينئذ سيفضي إلى مفسدة أعظم من مفسدة الحرام . ومثاله : ربا النسيئة إنما يقع بسبب المداينات بين الناس , فلو منعنا القروض مطلقا , لنجونا من الربا . لكن هذا لا يجوز ؛ لأن للناس حاجة ماسة إلى الديون , ومنع الديون بالكلية أعظم من مفسدة وقوع الربا بسببها . والأكثر في الخمر أنها إنما تُصنع من العنب , فلو حرمنا زراعة العنب , لما صُنع أكثر الخمر , وهذه مصلحة مطلوبة . لكن هذا لا يجوز ؛ لأن مصلحةَ تمتُّعِ الناس بالعنب واستفادتهم منه تفوق مصلحة منع صنع الخمر منه . وخروج النساء للتعليم , وحصولهن على الشهادات التي تؤهلهن للعمل , يتيح لهن كثرة الخروج من المنزل , فلو منعناهن من التعليم لتحققت مصلحة القرار في البيت (حسب بعض وجهات النظر) , ولنجونا من تعرضهن للعمل المختلط ومفاسده . لكن هذا لا يجوز , ولا أعرف الآن أحدا له اعتباره يصرح بتحريم خروج النساء للتعليم في مدارسهن الخاصة بهن ؛ لأن مفسدة جهل النساء , تفوق عندهم المفاسد التي يذكرونها لتعليمهن ؛ ولأن مصلحة طلب الرزق بعمل شريف مباح تفوق مصلحة بعض صور القَرار في البيوت ومصلحة تجنيب بعض النساء مخاطر العمل المختلط .
إذن : فقد لا يجوز سد ذريعة الحرام بتحريم المباح , لا لأنه يمكن سدها بالتوسع في المباح , بل لأن مفسدةَ سدِّها تفوق مفسدة فتحها !! فتكون تلك الذريعةُ إلى المحرّم مفتوحةً مباحةً ؛ لأن سدها يُفضي إلى مفاسد تفوق مفاسد الحرام المترتِّب على فتحها .
ومن هذا التقرير يتبين : أن سد الذريعة بتحريم المباح الذي يفضي إلى الحرام يشترط لصحته ثلاثة شروط , قد تغيب أو يغيب بعضها عن بعض الفتاوى المعاصرة :
الأول : أن يكون إفضاء الذريعة إلى الحرام يقينيا أو بغلبة ظن , أما إذا كان إفضاؤها إليه بظنٍّ مرجوحٍ أو بشكوكٍ لا ترقى إلى رُجحان الظن : فلا يجوز هذا السد للذريعة .
الثاني : أن لا يمكن سدُّ الذريعة إلا بتحريم المباح , أما إذا أمكن سد الذريعة بالتوسع في المباح أو بارتكاب المكروه : فإنه لا يجوز هذا السد للذريعة .
الثالث : أن تكون مفسدة تحريم المباح سدا للذريعة أهون من مفسدة المحرّم نفسه , أما إذا ترتب على تحريم المباح مفسدةٌ تفوق مفسدةَ المحرم نفسه : فلا يجوز هذا السد للذريعة .
وبغير تحقق هذه الشروط الثلاثة مجتمعة سيكون التحريم بدعوى سد الذريعة تحريما لما أباحه الله وتشريعًا لم يأذن به الله !!
ولكي يتم الالتزام بهذه الشروط التزاما صحيحا ويكون العمل بالنظر إليها عملا دقيقا يجب مراعاة أمور ستة :
الأول : أن لا تُحرّم إلا الذريعة المفضية بيقين أو غلبة الظن , وأن لا يُتوسَّع في حَرَمِ هذه الذريعة , فيُجعل حولها حِـمًى من الذرائع المزعومة , والتي لا تُفضي إلى الحرام إلا بما دون غلبة الظن وبالوساوس التي لا يجوز الاعتماد عليها في الأحكام ؛ أخذًا بقاعدة (الضرورة تقدر بقدرها) , ونحن إنما ارتكبنا المحظور بتحريمنا المباح للضرورة التي أباحته لنا , والمحظورُ المباحُ للضرورة يجب أن لا يُتوسَّعَ فيه ؛ إلا بقدر دَفْعِ حالةِ الاضطرار فقط , دون زيادة على ذلك القدر .
فعندما حرم الشرعُ النظر المحرم والخلوة بالأجنبية وغيرهما من التدابير الواقية من الوقوع في الزنا , وعندما سد هذه الذرائع إلى هذه الفاحشة , حرّمَ الفقهاءُ صُورًا مما سُمّي بـ(الاختلاط) قياسا على المحرمات المنصوص عليها في الشرع ؛ لأن إفضاءها للوقوع في الزنا يقينيٌّ (في بعض صوره) أو ظنٌّ غالبٌ (في صور أخرى) . لكن لا يصح (مع ذلك) أن أبالغ فأحرم خروج النساء للتعلُّم أو أن أحرم مبايعةَ النساء للرجال في السوق ؛ لمجرد مخاوف لا تتبيّن فيها غلبة المفاسد ورجحانها على مفسدة تحريم المباح .
وقد يستند المتوسعون في سد الذرائع المغالون فيها إلى أمرين يعتمدون عليهما في هذا التوسع والغلو :
1- الخوف من التغريب (بخططه الخفية والمعلنة) , ومن ضغوط العولمة ، ومن تدخلات الدول والمنظمات ، ومن الطابور الخامس لهم في أوطاننا . كل هذا يستوجب احتياطًا للشريعة , يشبه قانون الطوارئ الذي تلجأ الأمم إليه في أوقات الأزمات .
2- فساد المجتمعات , مما يوجب الحيلولة بينهم وبين التهافت على محارم الله تعالى .
والجواب عن ذلك أن نقول : هذان الأمران كلاهما لا يجيزان تجاوز الشروط الثلاثة السابقة , بل يؤكدانها , ويوجبان الالتزام بهما . فمهما بلغت خطورة المؤامرات الخفية والخطط المعلنة , فكل ذلك لا يجيز سد ذريعة بتحريم الحلال , ما دام سدها بالتوسع في الحلال ممكنا .. مثلا . ومهما بلغ فساد المجتمعات , لا يجوز شرعا (نقلا وعقلا) أن نكلفها بما يفوق قدرتها , وأن لا نقدم المفسدةَ الأخفَّ وندرأ بها المفسدة الأعظم ؛ بل فساد المجتمعات قد يكون أدعى للتخفيف عليها , لا للتشديد , كما سبق بيانه , عند الفقيه الشفيق الراغب في تقريب الناس : من رضوان الله تعالى , ومن الأصلح لهم , ومن الأخف مفسدةً لدينهم ودنياهم , لا عند الفقيه الذي يظن وظيفته تنتهي عند تأثيم الناس وتفسيقهم !!
الثاني : لما كان تحريمُ المباح سدًّا للذريعة حالةَ اضطرار , ولولا الاضطرار لما صح للفقيه تحريم ما أباح الله تعالى : وجب أن يسابق الحكمَ بالتحريم سدًّا للذريعة سعيٌ جادٌّ إلى الخروج من حالة الاضطرار التي أجبرتنا على تغيير حكم الله تعالى . فلا يصح أن لا يكون عند الفقيه تجاه كل مشكلة إلا السدّ , والسدّ وحده , والتحريم , والتحريم وحده ! بل ربما توهّمت بعض الفتاوى أو أوهمت أن حكمها بالتحريم حكمٌ أبديّ , دون أن تراعي أن الظروف قد تتغير , فتنتفي حالة الاضطرار التي أجازت لها تحريم ما أحلّ الله تعالى , فضلا عن أن يُفكر أصحاب تلك الفتاوى في وضع خططٍ وتوضيح سُبُلٍ تعود بالحكم إلى مراد الله تعالى وإلى توسعة شرع الله بالإباحة !!
فمن شروط التطبيق الصحيح لتحريمٍ صدر من سدِّ الذريعة , أن نعلم أن هذا الحكم حكمٌ مؤقت , لحالة استثنائية , وأن الذمم لا تبرأ بهذا الحكم وحده ؛ بل لابد من التفكير المليّ والتعاون في تغيير هذا الواقع الذي جعل المباحَ الطيبَ حرامًا خبيثًا , لكي يعود إلى طيبه وحليته , ونطبقَ شرع الله تعالى كما أراده الله تعالى !
الثالث : يجب أن نفرق في النظر إلى المفاسد المتحققة والمتيقّنة من تلك الذريعة بين فتوى عامة (لعموم الناس) وفتوى خاصة (لشخص أو أشخاص معينين) , حيث إن تحقق إفضاء تلك الذريعة في حق شخص يحرمها عليه خاصة , لكن لا يحرمها على الناس كلهم ؛ إلا إذا غلب تحقق تلك المفسدة على عموم الناس أيضا , فعندها تحرم على جميع الناس أيضا .
وكما في تمثيل سابق : لا نشك أن زراعة العنب ستكون ذريعة لصنع الخمر , وهذا أمر متيقَّن لا نشك فيه , فما خلا زمنٌ من خمارين يصنعون الخمر من العنب , فلم يكن ذلك سببا لتحريم زراعة العنب ولا لتحريم بيعه , رغم تَـذَرُّع الخمارين به إلى صُنْعِ الخمر وبيعها وشربها . لكن من علم أن فلانا من الناس يصنع الخمر , ثم طلب منه أن يزرع له مساحة واسعة من العنب , أو أن يبيعه حمولة شاحنة كبيرة منه , فغلب على ظنه أنه إنما يريد العنب لصناعة الخمر : حرم عليه زراعته له وبيعه إليه .
وهكذا يتبين أن تَيقُّنَ وقوع الحرام بسبب تلك الذريعة لم يكن وحده أمرًا كافيا لإصدار فتوى عامة بتحريمها , رغم تيقن وقوع الحرام بسببها , وإن أجاز تيقُّنُ الوقوع أو غلبةُ الظن به تحريمَ المباح في الفتوى الخاصة !
وهذا ما يُغفل عنه كثيرا في بعض فتاوى الغلو في سد الذرائع : خاصة فيما يتعلق بأحكام النساء , فيغلو أصحاب تلك الفتاوى في سد الذريعة بتحريم عام , بحجة التيقن من إفضاء تلك الذريعة إلى الحرام , دون مراعاة غلبة هذا الإفضاء من عدم غلبته .
فقيادة المرأة للسيارة : لا يشك أحد أنه سيكون سببا في وقوع بعض النساء في شراك الاعتداء عليهن من بعض ضعاف النفوس , لكن هل مجرد تيقن وقوع ذلك داعٍ كافٍ للتحريم العام ؟ أم لا بد من تيقن وقوعه أو غلبة الظن بوقوعه مع يقينٍ أو غلبةِ ظنٍ بأنه سيكون هو الغالب , حتى يصح أن يكون سببًا للتحريم العام ؟
وكلنا يعلم أن المرأة تقود السيارة في عامة العالم الإسلامي , وأن كثيرا من أهل الصلاح والغيرة في تلك البلاد يسمحون لنسائهم بقيادة السيارات , وأن كثيرا منهم يمتنعون من ذلك أيضًا , ولم يدع مدّعٍ أن الفساد غالبٌ على أولئك النسوة اللواتي يقدن السيارات , وبسبب قيادتهن لها . وهذا كله تحقق رغم عدم وجود شروط ومحترزات وتنظيمات تُعين على تخفيف المفاسد وتحمي من تهافت أهل الفساد , فكيف لو وضعت الشروط والتُزمت المحترزات وطُبقت التنظيمات ؟!
وبغض النظر عن المثال : فالمهم هو وجوب ملاحظة الفرق بين تيقن إفضاء الذريعة إلى الحرام في الفتوى العامة وفي الفتوى الخاصة , على ما سبق شرحه .
الرابع : وجوب التفريق بين سد الذريعة المنصوص عليها في الكتاب والسنة وسد الذريعة المجتَـهَد فيها من العلماء :
فسدُّ الذريعة المنصوص على تحريمها في الكتاب أو السنة (كتحريم سفور المرأة عن عورتها – المختلف فيها - وكتحريم الخلوة ) : تحريمُها هو الأصل , وهو تحريمٌ مؤبد (بمعنى أن هذا هو الأصل في حكمها) , ولا نخرج عنه إلا استثناء لضرورة تلجئ إليه . وهذه الذريعة المنصوصة مفسدتُها لابد أن تكون غالبةً في عامة الظروف والأوقات (بمعنى أنه سيكون إفضاؤها للحرام هو الغالب غالبا) .
أما سد الذريعة باجتهاد العلماء فعلى العكس من ذلك : حيث يجب أن يكون تحريمها مؤقتا بالظرف الداعي للتحريم فقط , إذ إن أصلها هو عدم التحريم , وإذا زال ذلك الظرف زال التحريم . ولا يمكن أن تكون مفسدتها غالبةً في عامة الظروف والأوقات , وإلا لما أباحها الله تعالى . ومن ظن أن شيئا ما أباحه الله تعالى , وهو عنده غالبا ما يفضي إلى الحرام , فمنع منه بحجة سد الذريعة منعا مطلقا (بلا قيدِ ظَرفِه الداعي للتحريم) , فقد استدرك على الله (سبحانه وتعالى) , ونسب الشريعة إلى النقص !!
الخامس : يجب أن نفرق بين حالين من حالات سد الذريعة : سدها عند التيقن من إفضائها للحرام , وعند الظن :
فسدُّ ذريعةٍ تيقنّا من كونها ذريعةً مفضيةً إلى الحرام , بنص من الوحي يفيد اليقين في دلالته على التحريم , أو بنظر في واقعٍ أفاد اليقينَ من إفضائها إلى الحرام : الخلاف في سدها وتحريمها سيكون خلافا غير معتبر , ويستحق الإنكار .
وأما سد ذريعة بمجرد الظن المستفاد من دلالةٍ ظنيةٍ في النص أو من نظرٍ في الواقع لا يبلغ درجة اليقين في الإفضاء : فالخلاف في سدها وفي تحريمها وعدم تحريمها خلاف معتبر , ولا يجوز إنكاره .
وكثيرًا ما يُغفَل عن هذا التقرير , والأكثر هو أن يتم الإنكارُ على المجتهِد الذي منع من سدِّ ذريعةٍ رآها غيرُه محرمةً ؛ لأنها عند المحرِّم ذريعةً مفضية إلى الحرام , دون تمييز مستنَدِ المحرِّم : هل كان يقينيا ؟ أو كان رُجحانا ظنيا لا يجيز الإنكارَ على المخالِف المبيح ؟
فما أكثر المنكرين على مسائل سد الذريعة , وهي دائرةٌ بين ظنٍّ وظنٍّ , فلا تُجيز ظنيةُ دليله هذه لأحد الطرفين الإنكارَ على الآخر . ويجب أن يقتصر الإنكار في مثل هذه المسائل : على من ألزم باجتهاده الظني , وعلى من أنكر على من خالف اجتهادَه الظنيَّ (دون مصلحة عامة توجب الإلزام) . وأما الاجتهاد الظني نفسه , سواء خرج بسد الذريعة أو بعدم سدها , سواء خرج بالتحريم أو عدم التحريم , فما دام مستنده دليلا ظنيا يُجيز الاختلافَ , فلا يجوز الإنكارُ عليه , ولا الإلزامُ به .
وقد يُغفَل أيضًا عن أنه يجب الإنكار على القول بإباحة ذريعة من الذرائع , إذا كانت يقينيةُ إفضائها إلى الحرام يقينيةً لا تخفى ؛ إلا بوجه من القصور العقلي أو العلمي الذي لا يبيح للمقصِّر الخلاف فيها .
السادس : التفريق بين الذرائع : بين ذريعة إلى كبيرة وذريعة إلى صغيرة . وبين ذريعة إلى المحرم المقصود بالمنع (كالزنا) وذريعة وإن كانت محرمة بالنص (كالنظر إلى ما لا يجوز النظر إليه من المرأة الأجنبية) إلا أنها ليست هي المقصودة بالتحريم , وإنما حُرمت لأنها ذريعة من ذرائع الزنا :
فذريعة الكبيرة تستحق من التشديد مقارنة بذريعة الصغيرة , فلا يصح أن أجعل تحريم الخلوة بالأجنبية (وهي ذريعة لكبيرة) كحكم الخلوة بصورة لامرأة أجنبية .
والقياس على أمر محرم مقصود بالتحريم أقوى بكثير من قياس على ذريعة ليست مقصودة بالتحريم لذاتها , وإنما حُرمت لأنها ذريعة فقط :
- فقياس تحريم المخدرات التي تُغيِّبُ العقلَ بالخمر = قياس قوي جدا ؛ لأن الخمر (لخطورتها البالغة ) محرمة لذاتها , حتى سُدت الذرائع دونها , فحُرِّمَ قليلُها الذي لا يُسكر سدًّا لذريعة شرب كثيرها الذي يُسكر , ولُعن في الخمر مع شاربها : سَاقِيهَا، وَبَائِعُهَا، وشاريها ، وَعَاصِرُهَا ، وآكل ثمنها، ومعتصرها، وحاملها، وَالمحمُولَةُ إلَيْه , حتى لو لم يشربوها , فلم تغب عقولهم ! مما يدل على أنها صارت في رتبة المحرم لذاته , وإن كانت علة تحريمها معلومة .
- لكن قياس صوت نعل المرأة (وهي تمشي) بصوت رنين الخلخال (إذا تعمدت المرأة إظهاره) , وهو الذي ورد في الآية النهي عنه صريحا ((ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن)) [النور: 31] = قياس ضعيف . ومن أسباب ضعفه : أنه قياسُ ذريعةٍ مزعومةٍ بذريعةٍ منصوصة , وليس قياسًا بمحرَّمٍ مقصود بالتحريم . والذي يبين ذلك : أنه لولا وُرودُ الآية بتحريم ضرب النساء بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن , هل تحريمُ ذلك سيكون ظاهرًا كتحريمه بعد ورودها ؟ مما يدل على أن المعنى في التحريم خفيٌّ , والمعنى الخفي لن يكون القياس عليه قويا . إلا إذا قلنا : إن المقصود بالتحريم هو التغنج والدلال والتمايل في المِشية , وهو المكنيّ عنه بضرب الرجل , وليس المقصود بالتحريم هو ظهور صوت الخلخال , فهذا سيكون معنًى ظاهرًا , والقياس عليه ظاهر . لكنه قولٌ وتفسير سيجعل صوت رنين الخلخال ليس محرما ؛ إلا إذا ظهر الصوت مع قَصْدِ لَفْتِ النظر , أو مع التمايل في المِشية .
السابع : الذريعة إلى الحرام لا يلزم أن تكون ذريعةً محرمة , بل قد تكون مكروهةً كراهةَ تنزيهٍ دون تحريم ؛ إذ قد لا يصل احتمال إفضائها للحرام درجة غلبة الظن به , فضلا عن اليقين , لكنه يبقى احتمالا مشكوكا فيه . ولا شك أن ترك الشبهات أمرٌ مستحب , وإتيانَها قد يكون مكروها . فواجب المفتي حينئذ أن لا يفتي بالتحريم , وأن يكتفي بالكراهة أو بالترغيب في التورّع والحثّ على الاحتياط .
ولا شك أن كثيرا من الذرائع هي بين الشك والظن المرجوح , لا الراجح , فلماذا لا نكاد نجد فتوى ذرائعية تخلص إلى القول بالكراهة فقط , دون تحريم ؛ إلا نادرًا ؟!! لماذا لا نكاد نسمع مفتيا يقول : « هذا العمل مكروه لأنه يُحتمل أن يكون ذريعة إلى الحرام , ولا أجرؤُ على تحريمه لعدم تَـحقُّقِ شروط التحريم وعدم توفُّر أدلته» . إن غياب هذا النوع من فتاوى سد الذريعة , أو خفاءها لقلّتها , ليدلُّ على خللٍ علمي منهجي في الفتاوى الذرائعية , وعلى ميلٍ فيها إلى التشديد , وعلى فَرْضِ وصاية مخالِفةٍ لشرع الله تعالى على المجتمعات الإسلامية ! وإلا لما غابت أو كادت عن الفتاوى هذه الأنواع من الأحكام , وهي أحكام التخيير وعدم الإلزام , والتي يجب أن تكون ظاهرةً ظهورَ وجودِ الذرائع المشكوكة والمرجوحة على أقل تقدير .. ولابد .
بل غياب أو ندرة فتاوى (الكراهة) عموما - في باب سد الذرائع وفي غيره - أمرٌ ملفتٌ للنظر داعٍ للعجب في كثير من الفتاوى المعاصرة , حتى كأن الحكم التكليفي قد سقط منه حكمُ (الكراهة) , فلم يَعُدْ للمفتي من سبيلٍ ليحثَّ على الامتناع من شيء إلا بـ(التحريم) . حتى إنك لتجد المشهد يتكرر في كثير من الفتاوى المعاصرة : أنْ يكون جمهور الفقهاء على القول بالكراهة (إن لم يكن في المسألة إجماعٌ , كما وقع فعلا) , وواحد أو آحاد فقط على القول بالتحريم , فتجد تلك الفتاوى غالبا ما تميل إلى القول بالـحُـرْمة , مما يزيد من لَفْتِ الأنظار وإلى إثارة العجب وإلى إثارة أسئلة الاستفهام العديدة عن سبب هذا الميل للتحريم . مع أن الأصل الغالب في المحرمات أن تكون منصوصًا عليها في الكتاب والسنة , أو أن يكون قياسُها جليًّا على المنصوص عليه , حتى يكون لجلائه في معنى المنصوص عليه , وأما غيرُ هذه المحرمات : فالأصل الغالب أن تكون قليلةً جدا في فتاوى العلماء . ولذلك كان عدمُ تَـجرُّؤِ المفتي على القول بالحرمة في غير المنصوص عليه وما في معناه هو الواجبَ عليه , هو وعدمُ التَّخَـوُّضِ في دين الله به تحليلا وتحريما بغير ثقةٍ تُبرئُ ذمته عند الله تعالى من التَّـقَـوُّلِ عليه سبحانه وتعالى . وهذا كله مما يُوجب أن يكون اختيارُ الامتناعِ اختيارًا فقط دون تحريم , وتفضيلُه تفضيلا فقط دون إلزام بالامتناع ؛ احتياطًا (وورعًا) أو كراهةً = هو الأكثرَ( ) في فتاوى المجتهدين التي لا تعتمد على نص يحرِّمُ أو على قياسٍ جلي في معنى نص التحريم . مما يؤكد على وجود الخلل المشار إليه آنفا في كثير من الفتاوى المعاصرة , وهو : الميل إلى التشديد , وعلى فرض وصايةٍ مخالِفةٍ لشرع الله تعالى على المجتمعات الإسلامية , تُنفِّرُ الناسَ عن دين الله تعالى , بدلا من أن تُـحبِّـبَهم فيه .
فإذا ما تنبهَ حراس الفضيلة ومفتوهم لضبط باب سد الذريعة , وترَكَ غلاتُهم الغلوَّ في سدها الذي يعود بهدمها , رجوت لهذا الباب أن يؤدي مقصوده في حماية الشريعة وفي حراسة المؤمنين من تخطف الشهوات والشبهات , ورجوت أن لا نُبغّض إلى الناس قاعدةً جاءت لتوسع عليهم دينهم برحمته وسماحته , فضيق بها الغلاةُ عليهم دينَهم بتغليظهم وتشديدهم .
ولذلك كدت أن أسمي هذا المقال : بـ(حراس الفضيلة بين سد الذريعة وهدم سدها) .
فحذارِ من غُلُوٍّ في إعمال أصل (سد الذريعة) , حتى يُفضي هذا الغلوُّ في إعمالها إلى تفريط وتفلُّتٍ من أحكام الله , ربما يصل إلى تبغيض أحكام الله وشرعه إلى الناس ! وأي منكر أعظم , ويحتاج إلى سدٍّ عظيم يحول دون ذرائعه : من أن نُبغِّضَ دينَ الله تعالى إلى الناس بالتضييق عليهم والتنطّع المناقض لسعة أحكام الدين وفُسحتها , ولسماحتها ورحمتها !!
ثم : أفلا تحتاج هذه الذريعة (ذريعة التفريط بالغلو في سد الذرائع) إلى سدِّها ؟! لماذا لا نسعى لسدِّ ذريعةِ منكرِ الغلوِّ في سد الذرائع ؟! وبغير غلو أيضًا ؟!! فلن يكون الحق في مواجهة الغلو بالغلو , بل الحق لا يكون حقا إلا إذا قام على الاعتدال والنَّصَفَة , ولو كان في مواجهة الغلو .


المصدر / مجلة البحوث الاسلامية

السبت، 25 يناير 2014

الالتفاف حول " المحكمات " وأثره في الفتوى




إن الانفتاح العلمي والفكري والإعلامي الذي يعيشه المسلمون اليوم حالة فريدة لم يسبق لها مثيل، ولم يعد - كما كان سابقا منذ عقد أو عقدين من الزمان - بالإمكان تحديد وضبط قنوات التلقي والتوجيه والفتوى
بل وبسبب: تنوع وسائل الإعلام المشاهد منه والمقروء، ولسهولة التعاطي معه ولكل أحد؛ بات المسلم يسمع الفتوى والتوجيه من أكثر من مكان، ومن مشارب مختلفة ومذاهب شتى واتجاهات متباينة؛ وفي كل: الغث والسمين، والقريب والبعيد، والجيد والرديء
لذلك أرى لزاما أنه لا بد من الاتفاق على قدر مشترك من العلم والفتوى لا ينبغي بل لا يجوز التساهل فيه والإفتاء بغيره! وإلا لوقع المكلفون في خلط عظيم، وارتكبت جناية على الدين! وهذا القدر الذي يجب الالتفاف حوله والانطلاق من خلاله واستحضاره جيدا عند كل فتوى أو اجتهاد هو "المحكمات في الدين". 
والمحكمات التي نقصدها في هذا السياق - وبعد استعراض لتعريف المفسرين والأصوليين لهذا المصطلح - هي ما لوحظ في تعريفها الأوصاف التالية وهي

  1 - الحفظ وعدم التغيير والتبديل
2 - الوضوح والبيان
3 - كونها أصلا ومرجعا
وهذه الصفات تتوفر في الأحكام الداخلة في قواعد الدين وأصوله حال التشريع ووقت الرسالة، التي لا يتصور ورود النسخ عليها ولا تخصيصها وهي واضحة الدلالة على معانيها، بحيث أنها لا تحتاج إلى تأويل، وهي أصول ترد إليها المتشابهات والجزئيات
وهي بذلك كما وصفها القرآن أم الكتاب وعمدته وأساسه، قال الله تعالى:  هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ  . 
قال الإمام محمد بن إسحاق - رحمه الله - في تفسير الآية: " المحكمات هن حجة الرب وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه "  . 
وقال الإمام المفسر القرطبي - رحمه الله – " فالمحكم أبدا أصل ترد إليه الفروع "  . 

  ومن أمثلة المحكمات: المقاصد الخمس الكلية التي جاءت الشريعة برعايتها، أو ما يعرف بالضروريات الخمس، وهي (حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض).
وهذه الضروريات تمثل في الحقيقة قاعدة المحكمات، فالنصوص الدالة عليها محفوظة لا تقبل تغييرا أو نسخا، وواضحة لا تحتاج لتأويل، وهي أصول ترد إليها ما يشتبه على أفهام المكلفين
ومن خلال هذه الصفات المهمة والخطيرة لهذا النوع من الأحكام (المحكمات) تأتي أهميتها ووجوب رعايتها من قبل المفتين وعامة المكلفين، فالفتوى عند صدورها من المفتي مهما كان مذهبه أو زمانه أو مكانه يجب أن تنسجم وتتوافق مع حفظ هذه الضروريات ولا يجوز أن تعارضها أو تعود عليها بشيء من الإبطال أو النقص
ومن أمثلة رد ما يشتبه على المكلفين لهذه المحكمات والأصول
(حفظ الدين) مثلا: هو الضروري الأول، ويحفظ من جانبين - كما قرر العلماء - من جانب الوجود؛ وذلك: بالأمر بالتوحيد والإيمان وإظهار أحكام الشريعة، ومن جانب العدم، وذلك: بمنع الارتداد عن الدين والسخرية منه، من خلال إقامة حكم الردة، والذب عنه بكشف شبهات أهل الزيغ والضلال والأهواء والبدع
واستحضارا لهذا الأصل العظيم، فإن الفقهاء والمفتين يردون فروعا كثيرة لا تحصى، تجتمع كلها على حفظ هذا المقصد


  فإذا دخل على بعض المكلفين إشكال في فهم (حرية المعتقد أو الرأي) بحسب مبلغ فهمه من قوله تعالى:  لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ  وفهم أن حرية الدين مطلقة، بحيث يسوغ للمكلف أن ينحل من أي دين أو معتقد متى ما شاء
فإنه يفتى ويبين له من خلال الرد لهذا المقصد المحكم (حفظ الدين)، وبيان ذلك: أن الشريعة كفلت لأهل الأديان الأخرى؛ إذا كانوا تحت ولاية المسلمين (أهل ذمة) حرية البقاء على ما هم عليه، أو اتباع الإسلام، وهذا الحق مشروط بشروط ذكرها الفقهاء في كتبهم، ومنها: أن لا تؤدي هذه الحرية للإخلال بحفظ الدين، فيمنع الإلحاد، وتسد جميع الوسائل المفضية إليه، وكذلك منع الإباحية ووسائلها، ونشر الخرافة والضلالات
وكذلك فإن في منع المسلم من الانتقال من الإسلام للكفر حفظا لهذا الدين من الانتقاص من قدره وتهوين شأنه في نفوس أهله وغيرهم
وبذلك يرد كل ما أشكل فهمه في هذه المسألة إلى هذا المحكم، فتكون الفتوى بحول الله من وسائل حماية المعتقد وبيان الشريعة 

  آثار الالتفاف حول المحكمات على الفتوى والمكلفين
بما أن المحكمات هن أصل هذا الدين وقاعدته المتينة، فإن الحفاظ على القاعدة فوق أنه واجب ضروري شرعا وعقلا، فإن آثار هذا الحفظ محمودة الغب ظاهرة الأثر، ومن آثار ذلك في مقام الفتوى وانعكاسه بالتالي على المكلفين
1 - ضبط الفتوى، وذلك بردها إلى أصول محكمة هي محل إجماع بين أهل العلم، فلا يستطيع المفتي تجاوز هذه الحدود؛ وإلا تكون فتواه بعيدة عن الصواب بقدر ابتعاده عن هذه الحدود
2 - تقليل دائرة الاضطراب في الفتوى قدر الإمكان، ومرد ذلك إلى توحيد جهة الرد (إلى المحكمات) فإذا استحضرت هذه المقاصد الضرورية عند تحرير الفتوى، ورعاها المفتي حق رعايتها؛ فإن كثيرا من المسائل المتعلقة بالاعتقاد والقضايا الكلية التي تهم مجموع الأمة ستكون محل اتفاق؛ أو على الأقل فإن دائرة الخلاف ستكون ضيقة إلى حد كبير، مما سيؤدي إلى جمع الأمة على رأي واحد - قدر الإمكان - في القضايا والمسائل الكلية لا سيما المتعلقة بباب الاعتقاد
3 - من آثار هذا الحفظ على المكلفين (المجتمع الإسلامي) منع الفساد في الأرض، وإبراز المنهج الرباني الذي يقدم التصور الصحيح 

  لقضايا الدين والدنيا؛ ومنه: تحريم الشرك والأهواء المضلة لمعارضتها لأصل التوحيد، وكذلك تحريم الاعتداء على النفوس، والأعراض ماديا أو معنويا، وتحريم ومنع كل الوسائل المفضية إلى الانحلال الخلقي والإباحية، واستحلال المحرمات، وتحريم كل ما يضر بالعقل من أفكار ضالة وأهواء منحرفة وخرافات ساقطة.

المصدر / مجلة البحوث الاسلامية

الاثنين، 20 يناير 2014

عالمية الرسالة وخطاب القرآن


رياض أدهمي
 تمثل قضية عالمية الرسالة معياراً منهجياً يساعدنا على وضع الأمور في نصابها عند مراجعة التراث ومحاولة الإستفادة منه في تحرير قضايا العقيدة و التشريع .  وقد عالجنا في عدد سابق من " الرشاد " قضية اللغة من أفق عالمية الرسالة وأشرنا إلى ضرورة تخليص لغة عرض  العقيدة وبيانها من العبء التاريخي لواقع المسلمين و المعارك الكلامية والخلافيات والجدل عبر العصور . وفي هذا المقال نحاول أن نطلّ مرة أخرى من أفق عالمية الرسالة لنرى بعض قضايا الخطاب القرآني من منظور جديد.

لقد تحدث العلماء و المفسرون و أطالوا في قضية إعجاز القرآن وذكر أكثرهم أن الإعجاز قد وقع - حصراً - بلغة القرآن وبيانه ونظمه وبلاغته ، وما زال العلماء والمفسرون لكتاب الله تعالى ينهلون من معين القرآن و بلاغته و روائع نظمه ويأتون في كل عصر بالعجيب من دقائق وعلو البيان وشرف المعاني ما يقصر عمر الإنسان عن الإحاطة به لسعته وكثرته . وكلما اطلع المرء على ما سطرته قرائح العلماء في هذا الباب ازداد حباً للقرآن الكريم وشغفاً بقراءته وشعوراً بالمنّة العظيمة والنعمة الكبيرة بمعرفة لغة القرآن .

ولكن التأمل في ما كتبه العلماء في هذه القضية و عند عرضه على معيار عالمية الرسالة يشير إلى أن هناك بعض الذهول عن أفق هذا المعيار يحتاج إلى التحرير و التنبيه لنخرج من مبالغات الإستغراق في خصوصيات عصر الرسالة و نزول الوحي و للعودة بالقضية إلى إطارها المطلق الذي رسمه القرآن الكريم .

لقد كان اختيار المكان والزمان لتنـزل الرسالة الخاتمة حكمةً إلهيةً باهرة ظهرت آثارها في طبيعة الإستجابة وعمقها وسرعتها وانتشارها وثباتها واستمرارها . وما كان ذلك ليحدث لولا أن طبيعة القوم الذين اختارهم الله سبحانه لحمل الرسالة وطبيعة لغتهم وظروفهم التاريخية لحظة تنزل الوحي تؤدي وفق سنن الله و قدره الغالب إلى مثل تلك النتيجة " الله أعلم حيث يجعل رسالته "

وقد تحدى القرآن الكريم العرب الذين عاصروا نزول الوحي أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بعشر سور مثله أو بسورة من مثله فحاولوا وعجزوا .  ولقد وصف العلماء حالة العرب ودهشتهم والروعة التي أخذتهم لما سمعوا القرآن وأجادوا في وصف ذلك بما لا يحتمل مزيد بيان .  وبين العلماء كذلك أن قليل القرآن وكثيره سواء في إثبات مخالفة بيان القرآن لما عهدته العرب في بيانها وتصاريف استعمالها للألفاظ والمباني وإقامة الحجة عليهم بالقرآن ومطالبتهم من أجل ذلك بالإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا السياق بين العلماء أنه لا معنى لتحدي العاجز وأن التحدي يعني بداهة أن العرب الذين عاصروا نزول الوحي قد وصلوا في البيان والتفنن في ضروب المعاني والبلاغة إلى أعلى درجات الإمكان ومع ذلك فقد عجزوا وبهروا واستسلموا للتحدي غير قادرين على رده وكان شأوهم في هذا قول العاجز المستكبر : " قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ".      ومن هنا يقرر الإمام الجرجاني في " دلائل الإعجاز " أن الجهة التي قامت منها الحجة بالقرآن وبانت وبهرت هي أن كان على حد من الفصاحة تقصر عنه قوى البشر ، وكان محالاً أن يعرف كونه كذلك إلا من عرف الشعر الذي هو ديوان العرب و عنوان الأدب ، ثم بحث عن العلل التي بها كان التباين في الفضل .

وقد كتب الأستاذ محمود محمد شاكر فصلاً قيماً ممتعاً في إعجاز القرآن وجعله تقديماً لكتاب الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي رحمه الله .  وفي هذا الفصل يقرر الأستاذ شاكر أن الشعر الجاهلي هو أساس مشكلة إعجاز القرآن فهو الشاهد والدليل على مكانة العرب في البيان ومن ثم فهو يدعونا كما دعا الإمام الجرجاني من قبل  إلى التعمق والمعايشة للشعر الجاهلي حتى نتلمس القدرة البيانية التي يمتاز بها أهل الجاهلية عمن جاء بعدهم و مستنبطين من ضروب البيان التي أطاقتها لغتهم و ألسنتهم ، فإذا تم ذلك فمن الممكن القريب يومئذ أن نتلمس في القرآن الذي أعجزهم خصائص هذا البيان المفارق لبيان البشر.


وهنا لابد أن نذكر أن المطابقة التامة بين التحدي القرآني وما اصطلح عليه علماء البلاغة باسم "إعجاز القرآن" بدلالته ومحتواه اللغوي البياني البلاغي حصراً ، هي مطابقة غير مسلّمة وهذا هو ما أريد أن أسجل فيه بعض الملاحظات و التي آمل من خلالها أن يفتح هذا الملف المهم و تعود القضية إلى أصلها القرآني بأفقها الواسع الممتد فيما وراء خصوصيات عصر الرسالة .

فإذا كان التحدي الذي أعلنه القرآن مستمر وقائم إلى قيام الساعة ، وأن هذا التحدي هو للبشر جميعاً في كل عصورهم و على اختلاف ألسنتهم و ألوانهم ، فأي معنى لهذا التحدي إذا كان الناس فيما وراء عصر النبوة غير قادرين على فهم و تذوق و معرفة لغة العرب، ومن ثم فهم غير قادرين على معرفة خصائص بيان القرآن وبلاغته والذي أصبح به القرآن معجزاً (حصراً ) حسب قول علماء البلاغة ؟ وأي معنى لتحدي الإنس و الجن أن يأتوا ببيان لا يعرفه و لا يفهمه عشر معشارهم ممن خلق الله من وراء أمة العرب ؟

لقد تحدى القرآن العرب ومن ورائهم الجن و الإنس أن يأتوا بمثل القرآن أو بسورة من مثله ، وجاءت الآيات التي ذكر فيها التحدي في سياق خطاب القرآن للناس كافة أو بصيغة العموم التي لا تفيد الحصر بأمة العرب خاصة . ففي سورة البقرة جاء قوله تعالى "وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين" في سياق خطاب القرآن للناس كافة "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم و الذين من قبلكم لعلكم تتقون" .  وقول الله تعالى في سورة يونس " أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين "  جاء في سياق قوله تعالى "وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله" . ومعلوم أن الدعوى بافتراء القرآن لم يتفرد بها مشركو العرب ، بل هي دعوى اليهود و النصارى وغيرهم من أمم الأرض عبر العصور .  وقول الله تعالى في سورة هود "أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين" جاء في سياق خطاب القرآن للإنسان اليؤوس الكفور والذي يشمل بالطبع من خاطبهم القرآن أول مرة ، و لكن صيغة العموم لا تنفي أن يكون المقصود بالتحدي كل من سولت له نفسه من المعاندين و المكابرين أن يدّعي افتراء القرآن و يتهم الرسول في صدق معجزته من ربه .  وآية سورة الإسراء " قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً " هو خبر في معنى التحدي للإنس و الجن جميعاً متظاهرين

و الأمر الآخر الذي نلاحظه في آيات التحدي بالإضافة إلى عموم الخطاب هو أن الله سبحانه و تعالى تحدى المرتابين و المكذبين أن يأتوا بمثل القرآن أو بسورة من مثله و ترك هذه ( المثلية ) دون تحديد ليكون موضوعها ومجالها هو ما يختاره المرتابون وما يحددونه هم من مجالات يظنون أنهم يمتلكون فيها الخبرة و التفوق ومن أجل ذلك يستطيعون حشد الشهداء و الأعوان الأكفاء .

فعندما واجه القرآن العرب بهذا التحدي أول مرة لم يكن لهم مما يدلّون به و يعتقدون لأنفسهم فيه المكانة و الإبداع و التمكن إلا بيانهم و لغتهم و فصاحتهم و بلاغتهم ، فأعجزهم القرآن و بهرهم في شيء اعتقدوا  أنهم يمتلكون ناصيته . و من هنا فإن كل ما سطره العلماء في شرح و تفصيل بلاغة القرآن وروعة بيانه و مفارقته لبيان البشر و ما كان من شأن العرب لما سمعته أول مرة ، أمر مسلّم ينبغي ألا يكون موضع خلاف . و لكن المهم هنا أن حصر  المثلية التي وقع بها التحدي القرآني بالبيان و البلاغة هو حصر لا أرى عليه دليلاً و لا أراه إلا استغراقاً في خصوصية  ظروف عصر الرسالة حمل عليه الذهول عن أفق عالمية الرسالة.

لقد اختار الله سبحانه و تعالى العرب لحمل رسالته الخاتمة ، فواجههم بالقرآن و تحداهم به فبهروا وانقطعوا و استسلموا ، و لم تمض سنوات حتى أتم الله نعمته و أكمل دينه و دخل الناس في دين الله أفواجاً و تأسست قاعدة الدين في جزيرة العرب الذين انساحوا في الآفاق يحملون الهدى و يعلّمونه للناس . لقد كان إعجاز القرآن للعرب و خضوعهم له حقيقةً تاريخيةً ساطعة أبرزت لنا طرفاً من حكمة الله سبحانه في ما اختار لإرساء قاعدة رسالته الخاتمه فالذين يمارون في هذه الحقيقة لا يحملهم على الإنكار و الجدال إلا الجحود و الضيق بما تمّ من نعمة الله ، و لا أجد لهم جواباً إلا قوله تعالى "قل موتوا بغيظكم". أما أن يهولنا ما يقوله المفترون عن الشعر الجاهلي و نظن أن قضية الإعجاز هي في خطر ! !  فلا أحسب أن هذا من الحكمة في شيء فالحقيقة التاريخية التي مكنت للإسلام من الظهور و الاستقرار والانتشار هي أكبر من أن ينكرها أو يشكك بها عاقل . و سيبقى التحدي بالقرآن قائماً ولو قصر تذوق الناس لبلاغته وبيانه أو جهلوا وجه إعجازه اللغوي وسحر بيانه في عصر من العصور أو ثقافة أخرى غير الثقافة العربية فالتحدي مطلق شامل عام لا يختص بالعرب ولغتهم ثقافتهم .  ومع ذلك سيظل التمكن من لغة العرب ومعرفة بيانها وتصاريف استعمالها للمعاني شرطاً أساسياً لفهم القرآن و شرحه ومعرفة مراد الله منه .

و من جهة اُخرى فقد توجه كثير من الباحثين على مر العصور إلى القرآن يمحصون فيه كل ما يخطر في بالهم من قضايا في إطار اختصاصهم و ما تمرسوا فيه و أتقنوه، فما رجعوا إلا مستسلمين مذعنين.  ومن هنا ذكر كثير من العلماء أبواباً من الإعجاز للقرآن الكريم لا تنحصر في قضايا اللغة و البيان، فذكروا الإعجاز العلمي و الإعجاز الأخلاقي و الإعجاز النفسي و الإعجاز التشريعي و الإعجاز التاريخي. وفي كل هذه الأنواع من الإعجاز ذكر العلماء و أطالوا فيما يثبت أن نمط القرآن وطريقة عرضه وتناوله لهذه الأمور مختلف ومفارق لما عهده البشر في محاولاتهم للتدوين والتأليف في هذه الموضوعات والأبواب من المعرفة، و هذه هي عين القضية التي تناولها علماء البيان ليثبتوا مفارقة بيان القرآن لبيان البشر.

وقد فتح الله على المسلمين في هذا العصر من أبواب الفهم لعجائب القرآن و أسراره و مواطن التدبر فيه بما لم يخطر للأقدمين على بال مما لم يكن عندهم من الأدوات و الوسائل لمعرفته و البحث فيه . ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء العلماء لا يبحثون في قضايا لغوية أو بيانية و إنما يدورون في فلك آخر يعتمد المعاني و القضايا و التوجهات ويصل الجميع إلى النتيجة الوحيدة والتي تنطق بها كل الشهادات وهي أن تحدي القرآن قائم وأن قدرة البشر  على الإستجابة ومقابلة التحدي بكل مجالاته أمر خارج عن الإمكان.


الأحد، 19 يناير 2014

القيم بين التأصيل والتنـزيل


رياض أدهمي
تتقاطع الأدوار والمهمات التي يقوم بها الناس ، وما لم يتم الوعي والفهم لطبيعة هذه الأدوار و تلك المهمات فإن الفرصة لسوء الفهم و سوء الظن و التقاطع و التدابر بين فصائل المسلمين ستزداد يوماً بعد يوم .

فالمعلم و المربي – على سبيل المثال – يبينون للناس القيم و يدفعونهم للوصول إلى القمة و يضربون لهم الأمثلة من حياة السلف الصالح و الرعيل الأول و يرغبونهم في الخير و الاقتراب من المثل الأعلى .

والمفتي والمفكر والخبير الاجتماعي و القائد – من جانب آخر - لا تغيب عنهم – في الأغلب - القيم التي يبشر بها المعلمون و المربون ، و لكن في محاولتهم لتنـزيل هذه القيم على الواقع و اختيار البرامج العملية  يستصحبون صورة المجتمع و التيارات التي تسري فيه ، و يراعون اختلاف طبائع الناس و تفاوت قدراتهم على تحقيق القيم و المثل العليا ، فيختارون من هذه القيم والمثل مقادير وجرعات تتناسب باجتهادهم مع الواقع و لا تعرض الأمة إلى أزمة و تدفعها خطوة باتجاه القمة بقدر ما تتحمل و بقدر ما تطيق . و مع ذلك، يبقى دور المربي و المعلم مهماً و أصيلاً للتذكير بالقمة حتى لا يحسب الناس أن ما هم عليه في مرحلة من المراحل و في ظرف من الظروف هو نهاية المطاف و غاية الأمل .

 وهنا تأتي الفرصة لسوء الفهم و سوء الظن ، فعندما تحسب طائفة من الناس أن إرشاد المعلم و المربي و خطبة الواعظ هي أحكام عملية نهائية لا يجوز التنازل عنها إلا تحت أوصاف الفسق و الضلال أو البدعة و الانحلال ، يسوء ظنهم بالمفتي و المفكر و الخبير الاجتماعي و القائد و يحشرون جميعاً في صنف هذه الأوصاف وأشباهها  فتقع الفتنة و التفرق و الاختلاف.

 وعندما يظن المفتي و المفكر و الخبير و القائد أن ما اختاروه من جرعات تناسب واقعهم الذي يعالجونه يمثل نهاية المطاف و أن أي دعوة إلى المزيد و إلى درجات أعلى من الالتزام أو الاقتراب من القمة تمثل الغلو والتطرف و التنطع و ما إلى ذلك ، عندما يحدث هذا تقع الفتنة و التفرق والاختلاف .

إن الفهم لما يمثله المعلم و المربي من جانب ، ولما يمثله المفتي والمفكر والقائد من جانب آخر ضروري لتتكامل الأدوار و تتساند الجهود وتتوحد الصفوف و نبتعد عن سوء الظن و التحامل .

حضرت مرة محاضرةً تعرض فيها المحاضر إلى إجراء مقارنة بين الأحاديث النبوية التي تصف فعل النبي صلى الله عليه و سلم من أنه زوّج بعض أصحابه على خاتم من حديد أو على ما يحفظ من القرآن ، و بين ما اشترطه الفقهاء من شروط الكفاءة في عشيرة الزوج و مهنته و  ماله و المهر المماثل لمهر فتاة من عشيرة الزوجة ، وما إلى ذلك . و توصل المحاضر بعد هذه المقارنة إلى أن ما قرره الإمام أبو حنيفة في موضوع الكفاءة لا علاقة له بهدي النبوة وإرشادات القرآن الكريم التي تبين أساس التفاضل بين الناس بقوله تعإلى " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " . و أنه لا أساس  ولا صحة لما أطال فيه الفقهاء من شروط تؤصل طبقية لا يعرفها الإسلام.

فكرت فيما أطال فيه المحاضر و ما توصل إليه فعلمت أن ما حمله على التحامل على الأئمة هو الخلط بين دور المربي و المعلم و بين دور المفتي ودور القائد في الأمة . فتوجيهات القرآن الكريم  و فعل النبي صلى الله عليه و سلم تمثل الهدف السامي الذي تتطلع إليه أجيال الأمة في حركتها لتزكية حياتها لتقترب من المثل الأعلى بقدر استطاعتها ، و أما ما يقرره الأئمة و المفتون فلا يعدو أن يكون شهادة منهم بأن المجتمع و الأعراف التي يعيشها الناس في بيئتهم التي يعرفونها تقيم وزناً لمثل هذا التفاضل في النسب و المهنة و غيرها بحيث لا يمكن أن تتحقق مقاصد عقد الزواج من التواصل و التقارب و التراحم والتمكين لنظام الأسرة و صلة الأرحام و بناء العلاقات الاجتماعية المستقرة في غياب أو تجاهل الضغوط التي يفرضها العرف . فالشروط التي يضعها الفقهاء تمثل رؤية لما يحقق المقاصد في إطار اجتماعي معين وليس تقريراً نهائياً لما يجب أن تكون عليه القيم الحاكمة في الموضوع.

وليس فهم ما يقوله المفتي – في ظرف من الظروف - على أنه يمثل المثل الأعلى والقيم الحاكمة بأقل ضرراً من اعتبار توجيهات المعلم أو المربي على سبيل الترغيب أو الندب على أنها تمثل الواجب في كل حال بغض النظر عن الواقع أو العرف .

وقد يكون من أوضح الأمثلة على ما يمكن أن يؤدي إليه الخلط بين دور المربي أو المعلم ودور المفتي ، تلك القطيعة و سوء الظن بين شرائح من العاملين للإسلام الذين يريدون إحياء دور الأمة في ممارسة السلطة و تداولها من خلال تربية الأمة على الشورى و من خلال إقرار المشروعية العليا في الأمة لقيم القرآن و السنة ، و بين شريحة من علماء الشريعة الذين يحسبون أن ما قرره بعض الأئمة أو المفتون زمان ضعف الأمة و انهيار مؤسساتها يصلحُ حكماً عاماً يجب أن ينسحب على جميع أجيال المسلمين إلى قيام الساعة و إلا فهي الفتنة والخروج عن ما قرره أو أقره العلماء !

ومن أشنع الأمثلة على الخلط بين كلام المفتي الذي يعكس أزمة أو حالة تاريخية معينة و بين القيم الحاكمة و المثل العليا ، ما يتردد من فتوى الشيخ ابن تيمية رحمه الله بشأن بعض الطوائف وأنه لابد من قتلهم و أنه لا تقبل منهم توبة و ذلك لتورطهم في العمل لصالح التتار الغزاة و اغتيال قادة الأمة و رموز جهادها ذلك الزمان ، فيحسب طائفة من الغلاة و الجامدين على الفتاوى من الكتب أن هذه الفتوى – التي يجب أن تفهم في إطارها التاريخي  – تمثل القيمة العليا و التعاليم التي يبشر بها الإسلام و تحكم نظرته في التعامل مع المخالفين .

 ويستطيع المرء أن يأتي بالكثير من الأمثلة التي تؤكد وجود هذا الخلط في طريقة التعامل مع التراث و فهم كلام الأقدمين و مقتضياته و متعلقاته .

ولعل من المفيد أن نذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يمثل في ذات الوقت المعلم و المربي و المفتي و القائد ، فكان صلى الله عليه و سلم يبين للناس ويعلمهم و يزكيهم و يأخذ بأيديهم إلى ما يقربهم من الكمال الإنساني ، حتى إذا ما جاءه سائل مستفتياً أو مسترشداً إلى ما يصلحه في خاصة نفسه أشار عليه صلى الله عليه و سلم إلى ما يصلحه بما يناسب حاله مما يمثل خطوة على طريق الكمال الإنساني  و التمثل للإرشادات العامة . فقول النبي صلى الله عليه و سلم لمن جاء يستأذنه في الجهاد : أحيٌ والداك ؟ فقال نعم ، فقال صلى الله عليه و سلم : ففيهما فجاهد ، هذا القول يمثل الفتوى التي يجب أن تفهم في سياق حال السائل و ملابسات حياته ، و لا تعارض و لا تناقض مع كل ما كان النبي صلى الله عليه و سلم يقرره كمعلم و يؤصله كمربي من ضرورة الجهاد و أهميته في حياة الأمة .

وكم يُصاب المسلمون بالخيبة و الإحباط عندما يقعون في أزمة أو تطحنهم مشكلة فيلجأون إلى أهل الرأي و النظر و أهل العلم بالشريعة يسألون عن مخرج و حل لما هم فيه فلا يسمعون إلا المواعظ و الخطب .

إن الهروب من دور القائد و الرائد إلى دور الواعظ و المعلم أصبح مرض الذين جفت قرائحهم عن استنباط الجديد و غلب عليهم ورعٌ بارد حملهم على الخوف من مخالفة الأقدمين فانسحبوا إلى مسارب الوعظ و منابر الخطابة التي لا تتصل بالواقع و لا تتحسس المواجع ، وذلك بدلاً من مواجهة المتغير بما يحقق أهداف الشريعة و يؤصل مقاصدها ، فإذا بالناس تُفتن في دينها وتطلب المخرج بآراء  مشرق أو مغرب بعيداً عن شرع الله.

ومن طريف ما نقل في كتب الأدب مما له صلة بالخلط بين دور المعلم والقائد ما ذُكر عن الحجاج بن يوسف أنه مرَّ مع أبيه عندما كان صغيراً على مجلس يتذاكرون فيه أخبار أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما – فأشار على أبيه بأن تمنع مثل هذه المجالس لأنها حسرة للأمراء و فتنة للناس .

والخلاصة أن الشرط الأساسي لتكامل أدوار الوظائف المختلفة في الأمة يتمثل في إدراك طبيعة وخصوصية كل واحدٍ من تلك الأدوار ، وفي عدم الخلط بينها ليس فقط في أذهان الناس ، وإنما الأهم من ذلك في أذهان أصحابها ، لأن كثيراً من ذلك الخلط في أذهان الناس إنما يتشكل ثم يتراكم بأثر الفهم المغلوط لبعض تلك الأدوار عند من يقوم بها في أول الأمر .

وعندما يتحصل هذا الفهم ، ويدرك أصحاب الأدوار طبيعة مهماتهم وإمكاناتهم كلٌ في موقعه ، ويدرك الناس تلك الحقيقة ، يبدأ التكامل في البناء دوره المتميز بعيداً عن التنافس والتدابر والتخالف ، وتحقيقاً لما فيه مصلحة الأمة على جميع المستويات.
 

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة